الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هذا الموت من هذا الجمال !

راوند دلعو
(مفكر _ ناقد للدين _ ناقد أدبي _ باحث في تاريخ المحمدية المبكر _ شاعر) من دمشق.

(Rawand Dalao)

2020 / 2 / 4
الادب والفن


( هذا الموت من هذا الجمال !)

في واحدةٍ مُخضَوضِرة من غابات النمسا الغَنَّاء ، و بالتحديد في أحضان ريفها الريان الجميل ... يشق نهر (سالزاخ) طريقه على مهل عبر سفوحٍ من طين لازب مُعشوشب بالألوان التي تتباوس من الشفاه ...

يمشي الهوينى مُتَخصوراً و كأنه يريد أن يثبت للطبيعة أن الزجاج السائل من بين أكتاف الصباريات و الزيزفونيات أمر لا مفر منه ليتكمل المشهد الربيعي الأخاذ ، فيشعر المرء من دفقه السلس بأنه آخذٌ بالتكسُّر من رقة زجاجيته الحالمة و نقاوة كريستاليته البراقة !

كنت أجلس يومياً على ضفة النهر حيث تتعانق الأشجار بالأشجار ... و تتعارك الأغصان بالأغصان ... و يحاكي الجوريُّ الجوريَّ بالجوريِّ ... بلعثمة و ضجيج من نحل و فراشات.

تماديت في حضوري وسط هذا المشهد الخلاب إلى أن نَشَأتْ علاقة حب و تعاطف بيني و بين لقلق أبيض رائع ، يختصر الطاووسية و الببغائية برفة جناح واحدة ... ها هو يمشي متبختراً على ضفة النهر ، رافعاً رأسه جنرالاً بعدد كبير من الأوسمة و الترقيات ! .... يسكب الريش من على كتفيه بطريقة ثلجية ، فيها الكثير من الإبداع الطاووسي و العفوية السنونوية ... اللهم إلا خطّين رماديين ينسدلان من على جناحيه بالمِيل ... كأن الله رسمهما بمسطرة حادة في غاية الدقة .... و صَوَّبَ منتصف الكتف !

لقلق رائع حتى في طريقة تنقله ... يطير أمامي من ضفة إلى أخرى يمارس التدلُّل و التدلُّه و الاستعراض و التثني ...

يتعنجه بمنقاره المدبب الذي يعكس الشمس الحادة لتفقأ العين ... فكأنه من حدته و دمويته سكين جزار أفاقت لتوها من المجلخ ... و يا ويلكم !

أراقب صديقي اللقلق واقفاً بالساعات على الضفة ناظراً إلى قاع النهر ....

فإذا به يغدرني بمشهد غير متوقع ... ليستل منقاره الأصفر البراق فيغمسه بسرعة البرق في ماء النهر .... و إذا بالمنقار و قد غُرز في صدر سمكة ذهبية مسكينة ...

رأيتها _ و ليتني لم أرها _ و هي تحشرج مضطربة تعالج أظفار الموت الذي يكتسح جسدها الصغير ... فتُعاركُ سكاكين المنقار اللئيم بصدر عار ، مع بضع انتفاضات لا تسمن و لا تغني من جوع ... !

ها هو يُنطِّطُها بين سيفي منقاره فيعدّل سمتها تلقاء حلقومه الجائع مباشرة ...

نعم نعم إنها في سَمْتِ اللهاة تباشر منتصف الحلقوم .... ثُمَّ هَمْ !

إنه الموت !

ابتلعها أخو القحبة !

يالجمالها المهدور في جماله المتأله المنفوش .... يالذهبيتها الضائعة و انسيابيتها المهراقة ... في بريق منقاره الماكر !

و فجأة ! و بعد أن تأملتُ بعمق في هذا المشهد:

1_ الإجرامي
2_ الجمالي
3_ الخلاب
4_ الصادم
5_ الماكر
6_ المتوحش ...

انكشف لي سر من أسرار الكون !

إذ أدركتُ أنني رأيت الجمال يختلط بالموت ... و المكر بالعفوية ... و القهر بالضعف و التخطيط بالتلقائية.

فهذا اللقلق هو الدنيا توظِّفُ جمالها الزاهي المفروش ، متربصة بنا لتقذفنا بالموت في صدورنا على حين غرة ... ها هي تتخلى عنا في لحظة ما ، فكلنا سنكون يوماً ما تلك الفريسة ... تلك السمكة ... تلك الأضحية على ذلك المذبح ... مذبح الحقيقة !

#الحق_الحق_أقول_لكم ... إن موتنا لجزء من جمالية الحياة ، إذ في موتنا استمرارية و حياة للكون ... فنحن كونيون رغماً عن أنوفنا ، عالميون غصباً عَنّا ...

كن ما كنتَ فسيأكلك أحدهم يوماً ما ... هَمٌ هَمٌ ، حُلقومٌ حُلقومٌ ... لقد حان وقت الرحيل ... ثم لتفترقي يا أيتها الخلايا المجتمعة في الجسد إلى الأبد ...

نعم إنه الموت ، و هذا الموت من هذا الجمال ... جمال الدنيا متمثلاً في بهاء اللقلق ، في بريق منقاره ، في نقاء ريشاته ، إنه جمال الموت 😔 جمال الموت الذي ينتظرنا ....

هنالك عندما اكتشفتُ أن موتي سِمَةُ كونِيَّتي ، و وَصْمَةُ عالميّتي ... و جزئي الذي سينضم إليّ فيُكملُني ... إنه الموت الكامن في الجَمَالِيِّ ...

فهل زركشت الدنيا هيئة اللقلق و هندستها من أجل إغرائية الموت ؟

أم أن الموت من استخدم الجمالَ و التَّكَيُّفِيَّةَ العالية في اللقلق كخدعة لتمرير جيناته إلى صدر السمكة المنكوبة ؟

هل الموت يستخدم الجمال أم أن الجمال هو من يوظف الموت ؟

أسئلة وجودية دارت في رأسي ... و عندها أصغيت قليلا أتأمل ضفة النهر كساحة للموت .... فانتبهت إلى قَدَر سمكة أخرى إذا بها في حلقوم اللقلق ... بروحها التي بلغت حلقومها ... ثم أخرى ... ثم أخرى ... ثم أخرى !

يا له من لقلق لئيم لا يشبع !

فاكتشفت أن هذا اللقلق أداة مبرمجة للإماتة و ماكينة متنقلة تصنع الموت المغلف بالجمال .... موتٌ يباغت السمك المسكين فيخطف منه نور العيون ... !

فأدركت أنني أمام ساحة تعذيب و ترويع حمراء لا أمام طبيعة خلابة جميلة ترفل بالألوان ... !

أدركت أنني أمام جحيم مقيم و موت مستمر و ألم مزمن ... و سواد يطغى ... لكنه مشهد مغطى بقناع من الجمال الخلبي الكاذب ...!

يا له من قاتل محترف ... ذاك الذي صمم هذا المشهد ... !

فحتى نحن البشر لا نستطيع أن نغلف الموت بالجمال إذ إننا نقتل ببشاعة و قبح رهيبين ... أما مصمم هذا المشهد فمحترف إجرام لا يرحم حيث استطاع تغليف كل هذا الموت بفتون من كل هذا الجمال ...!

جميعناً ماكينات مميتة ثم ميتة ... إننا أدوات لصناعة موت غيرنا الذين بدورهم سيصنعون موتنا !

ثم صَمَتَ المشهد برهة ... صمت ... صمت ... صمت ...

إلى أن جاء ثعلب أحمر منفوش الفرو خارج لتوه من عند مصفف الشعر ... كان قد اختبأ بين أوراق الشجر ، فانقض على هذا اللقلق الخيلاء ... فقتله ثم أكله !

عندها توسع التساؤل و ازدادت الصورة اتضاحاً ....

فنحن عبارة عن موت ، يقتل موتاً ، يقتل موتاً ...

و جمال قاتل ، يغلف جمالاً قاتلاً ، يغلف جمالاً قاتلاً ...

فالجمالية هي كنه الموت و بروازه ...

و الموت هو الضريبة التي دفعتها الحياة مقابل الجمالية و العبور.

#راوند_دلعو








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الموت والحياة؟ أم الحياة والموت؟
muslim aziz ( 2020 / 2 / 8 - 21:01 )

مع كوني انسان مؤمن ومسلم ولستُ محمديا كما تفتري علينا‘ فبدأت ارتاح لقراءة بعض ادبياتك ايها الكاتب‘ في الموت كُنهُ الحياة، فمن خلق الموت والحياة؟ ألا تذكر اول سورة الملك؟ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيئ قدير(الذي خلق الموت والحياة) فهل نحن نعبدُ الوثن كما تزعم؟
أعجبني · رد · دقيقة واحدة

اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي