الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مع إدوارد سعيد في رحلة علاجي 3/3

عبد الرحمن البيطار

2020 / 2 / 4
القضية الفلسطينية



حَاوَلتُ خلال الأسبوع الماضي أنْ أُنْهي تَرْجَمِة الجُزْء الأَخير من مُقَدِّمة ” إدوارد سعيد ” في طَبْعة كِتابِه الثانية ” مَسْأَلة فِلسْطين ” ( التي كَتَبَها في العام ١٩٩١) قَبِلَ ان يُطْلِق ” ترامب ” و ” نتنياهو ” إعلانهما وتصريحاتهما حول “مسألة فلسطين” قبل يومين (مساء يوم الثلاثاء الموافق ٢٨ كانون الثاني ٢٠٢٠) ، ولكنَّ لطول ذلِك الفَصْل ، ولصعوبة ترجمة نصوص إدوارد سعيد المكتوبة ، لم أتمكن من ذلك إلا يوم أمس( الأربعاء).
لا أُريدُ التعليق في هذه اليومية على إعلان ” ترامب / نتنياهو ” المَذكور . ولكني أرى ، أنْ صُدورها عن رئيسين مأزومين ، يَخْضَعان للإستجواب في قضايا تمس معاييرهما الأخلاقية والسلوكية والقِيَمِيّة ،و مُقبلان على خوض إنتخابات ، يُحولانها الى مُجرد أداة دعائية إنتخابية ، ويُقلل من درجة خطورتها ، ويؤكد لي ، أنها تُؤشر الى عُمْق الأزمة التي يعاني منها المَشروع الصّهيوني في فلسطين بعد قَرْنٍ كامِل من الزمان مُنذُ صدور قرار عُصبة الامم المتحدة في العام ١٩٢٢ بوَضْع فلسطين تحت الإنتداب البريطاني ، وتَضْمين نُصوص صَك الإنتداب تفويض الدولة المُنتَدَبة ( بَريطانيا) بتطبيق “وَعْد بَلفورْ ” في فلسطين .
لا أعرف لِمَ لَمْ يتم ترجمة كتاب إدوارد سعيد ” مسألة فلسطينين ” بطبعتيه الاولى (١٩٧٨) والثانية ( ١٩٩٢) الى العَربية ختى الآن ؟
لِمَ…؟
لا أَمْلِكُ جَواباً .
على أي حال ، في هذا الجزء الأخير من مُقدمة ” إدوارد سعيد ” عَناصِر تُرْشدنا الى طريقة التعامل ومَضمون الرَّد، وهذه تحتاج لمن يترجمها الى إستراتيجية نضال وطني فلسطيني جَديدة ، وإلى أنْ يَتولى العمل على تطبيقها دماء قيادية جديدة ، تَتمتع برؤية ، وبطاقة، وقُدرة ، غَير تِلكَ التي نراها في أوساط قيادات هَرِمة ، مُنْهَكة ، مُسْتَنْفَذَة ، ومُسْتَنْزَفة ، تتمسك بمقاليد القرار الوطني الفلسطيني ، وتتحكم به على نحو مُضِر.
ماذا قال ” إدوارد سعيد ” في الفَصل الاخير من مقدمته ؟
عَنْوَنَ ” إدوارد” هذا الفَصْل تحت عنوان ” في مَعْرض التقييم “.
بَدَأَ إدوارد هذا الفَصْل بتحذير القارِىء من مخاطر ذلك النوع من التحليلات التي تتم ” بأثر رجعي ” ( Retrospective ) بالقول :
” لكنَّ الإنصاف يَعود ليوعز لنا بضَرورة الإعتراف بأن التحليل بأثر رجعي دائما ما يَميل إلى الإنحياز إلى صف المُحَلِّل ، من حيث أنه يعمل لصالح المشاركين (في صِناعة الأحداث ) بقدر أكبر قليلاً من مجرد تجميل صورهم ، على نحو إجمالي وبلا إسراف”.
ويقول” أنَّ التاريخ الفلسطيني المُعاصِر يَمتلىء بالمُنْعَطَفات السَّيْئَة ، وحتى المَصائب ، والتي كانت البدائل المَقبولة ظاهِريًا تُعْتَبر في أوقاتها مُمْكِنة التّحقيق نَظَريًا ولكنها في واقع الأمر لم تكن قابلة للحدوث”.
ويُثير إدوارد عدداً من الأسئلة الإحتمالية الصّعبة ، ويتساءل ويقول ؛
“مَنْ كان يَعْرِف ، إذا ما كان بالإمكان ، في العام ١٩٧٠ ، تَجَنُّب حُصول مواجهة مع الجيش الأُردني ؟ “، أو
“ما إذا كان بإمكان مُنَظَّمِة التحرير التي كانت تُقيم في لبنان أنّّ تُبقي مَسارها هُناك مُنْفَكّاً عن المَسار الذي اٌتّخذته الأحداث والذي دَفَع البلد نحو دَوّامة الحرب الأهلية ؟ “، أو
“ما إذا كان بالإمكان تجاوز الخراب الذي نجم عن العدوان الإسرائيلي( على لبنان) في العام ١٩٨٢ ؟ أو
ما إذا كان ثَمَن إقصاء سوريا المُكْلِف ، مع تَواجُد فَصائل فلسطينية مُنْشَقّة عن منظمة التحرير تدور في فلك المجال السوري في العام ١٩٨٣، وحَرْب المُخيمات التي نَشَبَت ما بين مُنتصف الى نهايات عقد الثمانينات ( من القرن الماضي) ، والنزاع المتواصل مع الرئيس السوري ، ومُنافَسَته ، …ما إذا كان بالإمكان ( في ذلك الوقت ) تَجَنُّب دَفْع ذلك الثّمن ؟ “، أو
“ما إذا كان مُمْكناً أَنْ تُفْضي النتائج الكارثية لاٌنحياز منظمة التحرير نحو العراق والتي بدأ بالتَّبَلوُر قبل العدوان على الكويت بعامين إلى غير ما أفْضَت إليه ، دون أنْ يَلحق بالفلسطينيين تِلكَ الخسائر المَهولة وعلى كل جبهة تقريباً ؟ “.
وبعد هذه الاتساؤلات ، يُثير إدوارد ملاحظته حول مفارقة من نمطٍ معين كانت تحصل على الدوام عند اقتراب نُشوء ظُروف تَحول معينه، فيقول ؛
“أنَّه بَدا له من باب المُفارقة الكُلّية أنَّ الديناميات الإقليمية السِّياسية قد أصْبَحت على الدوام تأخذ منحىً تدميرياً واضحاً في كل مَرّة يَحْصُل فيها تَقَدُّم فلسطيني نحو تحقيق تقرير المصير ونحو بلورة كِيانيّة دّولة وُفق شكل مادي ملموس، وأنَّ ما لَفَتَ إنتباهه أن أحداثاً صارخة تَقع ، في كل مرة يقترب فيها المُكَوِّن الفلسطيني من تحقيق شَكَّل أو آخرَ من أشكال السِّيادة ، بحيث تَحمله على الدُّخول في مواجهة ،يكتشف بَعدها أن إيقافها في وقت مبكر هو أمر مُتَعَذِّر..”!
وفي تَصَور إدوارد سَعْيد ، “فإن هذه المُفارَقة تَتَمَثَّل في أنَّه ، وكتعبير عن تقرير المصير الوطني ، ( في ظل عدم وجود سِيادة على أراضٍ فلسطينية ) فإن النّشِاط الفلسطيني في هذا السياق كان على نحو واسع يَتم مُمارَسته خارج نطاق المَناطق الفلسطينية، وأنّه لذلك ، فإنّ( الشعب الفلسطيني) كان على الدوام يَعيش نوعاً من الحياة البديلة substitute life في مَكان آخر غَير فلسطين ” ويُضيف بأنَّ “هذا الأمر جعل النشاط الفلسطيني مكشوفاً ، إذا لَمْ نَقُل مُعَرَّضًا بالكامل للمخاطر ، و(أدّى )في كثير من الأحيان الى( إثارة ) عَداوات شَرِسَة”.
“لذلك”، يقول إدوارد سعيد ” ؛” يُعْتَبَر المَنفى هو الشّرط الجوهري في الحياة الفلسطينية ، هو مَصْدر ما هو مُتَقَدِّم ومُتَخَلِّف فيها ” ويَستطرد ويَقول ؛” لِنَقُلْ ، هو الطاقة في سبيل الأفضل ، وذلِكَ كما تم تجسيده في الأدب المَرْموق ( إميل حبيبي في المُتَشائِل، رويات غسان كنفاني، وجبرا، وأشَعْار رشيد حسين ، وفدوى طوقان ، وسميح القاسم ، ومحمود درويش ، وأعمال الكثير من كَتَبِة المَقالات والمُؤرخين ، والمُنَظِّرين ، وكُتّاب الذكريات ) ، وفي الشّبكة غير العادية من الإتصالات ، والجمعيات ، والعائلات المُمْتَدة “.
ويَعود إدوارد فَيُرْدِف ويقول ؛ “أمّا العِناد الفلسطيني ، فقد مَضى مُرافِقًا لكل ذلك. لقد بَقِيَت قضية فلسطين لعَقدين من الزمان هي القضية المُتَعَذَّر الإستيلاء عليها لغايات مَنْفَعِيّة ، والغير مُدَجَّنَة، وهي قضية النضال الوطني العنيد ضد الكُولونيالية التي لا تزال حيَّة — وهي للمُتَمَسِّكين فيها مَصْدر أمل لمْ يَتَحقق ، ومِثاليّة بلا بريق ، وهي لأعداءها مِهْمازاً ، وذاتاً قُرْبانياً سِياسياً مَتيناً لا يَتبدد ولا يَستقر فِي حالة من اللاكيانية الودودة، نَعَم ، بَقيتْ هي قضية كل هؤلاء لأنها جُزئياً ذو عُمْق حضاري، وديني، وتاريخي ، ولأنها جزئياً رَكيزة لمَصالح جَمّة ،محليّة ودولية في ذات الوقت”.
ويتحدث ، بعد ذلك إدوارد ، عن متلازمة من المُفارقات الشاذة ، مَيّزت الحالة الفلسطينية ما بعد عام ١٩٧٠ ، فيقول :
“ومع ذلك، فلا أحد — لا فلسطيني ولا عَرَبي أو إسرائيلي — يُساوِره الشّك ، كما أَعتقد ، بأنَّ العشرين عاماً التي بَدَأَت مع أحداث أيلول الأسود المُرْعِبة كان يُمكنها أنْ تَمضي قُدُماً لتنتج هذا الطاقم المُدْهِش من الإنجازات ، وهذه المسلسلات البائسة من النّكبات — أيِّ متطرفتين إثنتين وَحَّدَتْهْما حَقيقة مَفادها أنَّ الفلسطينيين كانوا في مَرْكز كل منهما — دون أن يكون إنْشٌ واحدٌ من الأرض الفلسطينية قد تَحَرَّر بالفعل. إنَّ من الصعوبة بمكان أن يتمكن المَرْء من إعطاء إسم لهذه الصيغة الشاذة من التجربة التاريخية ، لكن إستظهار ملامحها الرئيسية باختصار هو أمر ضروري . فبعد العام ١٩٤٨، جَرى تَشتيت الفلسطينيين ، وَالقليل ممِنْ بَقِيَ من هؤلاء في دِيارِهم التاريخية ، جَرى طَمْسَهم في دولة جديدة مُقَرَّرة أنْ لا تكون دَوْلَتهم . بعد عُقود ثلاثة ، قادت منظمة التحرير الجُهود الهائلة التي بُذِلَت من أجل إعادة التكوينreconstitution. واٌستجابت مَجموعة مُعتبَرة من المُؤسسات لحاجات الفلسطينيين في حقول التعليم والصحة والصناعة والأبحاث والقوة العسكرية ، دون إيلاء إعتبارٍ لمكان إقامتهم . واٌحتُلَّت مُؤسسات سياسية مثل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ، والمجلس المركزي والمجلس الوطني ، موقع المركز ،كأجهزة تَمثيل سياسي ، ذات مكانة مُحْتَرَمة ، للفلسطينيين ، وَإِنْ لم تكن تلك على القدر الكافي من كفاءة العمل. أما القِيادة، فكانت تَتمتع بِقدرٍ كبير من قدرة التّحمل ، هذا على الرغم من تَعَرُّضها لتصفيات وإغتيالات مُتَنَوِّعة أصابت رُموز اً مُعْتَبَرَة من قادتها ، والذين بفُقدانهم خَسِرَت القِيادَة قَدْراً كَبيراً من طاقاتها القيادية ؛ غَسّان كَنَفاني، جَمال ناصر، كَمال العُدوان ، يُوسف النجار، أبو الوَليد، أبو جهاد ، أبو اياد، أبو الهول. ويتعين أنّ نُدْرِجَ في هذه القائمة أعضاء قياديين في المُنَظّمة مِمَّن قُتِلوا في أوروبا مثل نعيم خضر، وعِز الدين قَلِق ، وسَعيد حَمامي، وعصام السرطاوي، وماجد أبو شرار ، واللذين مَثَّلَتْ الحِكْمة السياسية التي كانوا يَتحلّون بها هَدَفاً لتصفيتهم بذات القدر الذي تم فيه إستهدافهم بسبب خِصالَهم ومَهاراتهم الشخصية القيادية المَهيبة” .
وعن ياسر عرفات ، وظاهرته في المجتمع الفلسطيني في مرحلة ما بعد عام ١٩٦٧، يَقول إدوارد ؛
” وبالرغم من أنَّ المُجتمع الفلسطيني قد تم تَشتيته ، وأُعيدَ مَوْضَعَته في عدد كبير من المُجَمَّعات التي لا تتوفر فيها شروط حَياة لائقة ، فقد نشأ في القلب من هذه التّجمعات ثابت من الضرورة جسَّده شَخص ياسر عرفات ، وهو شخص تراجيدي يتمتع بقدر كبير من خِصال سياسية غير عادية . إنَّ قَدْرًا كبيراً من التصارع بين الفرقاء، وبين المكونات ، وفيما بين الأنظمة العربية ، وقَدْراً كبيراً أيضاً من عَداء إسرائيل والولايات المتحدة المشكوك فيه، والكثير من التّفكك ، والإلتفافات الدَّاخلية الفوضوية في جسم الحركة (الوطنية الفلسطينية)” ، يقول إدوارد ؛” إنَّ قدراً كبيراً من كل ذلك قد تم إختزاله ، وفي الأغلب تم السيطرة عليه من خلال المُناورات ( التّي كان يَمْهر بممارستها ) عَرَفات” .
ويستطرد ويقول : ” لقد حَقَّقَ عرفات في شخصيته إزدواجية من طراز خاص ؛ فمن ناحية، فقد جَسَد في شخصه رمز فلسطين على نحو غَير قابل للشك ، وبصورة مقرة وفورية ، ومن ناحية ثانية، فقد حَقَّق في كيانيته شَخصية القائد السياسي بالهالة والإمتيازات التي يَتَمَتّع بها القائد ، وكذلك بتلك العناصر المُعيقة الدفينة في ذاته، والتي يُمكن أنْ تُلاِزم هذا الطِّراز من الشخصية. إنَّ واحدة من مُساهماته ذات القيمة هو ما أشاعه من أجواء ديمقراطية نِسْبِية والتي إحْتَضَنَتْ العَمليات السياسية الفلسطينية، ( والتي بمقارنتها بنقيضها في البيئة العربية ، فإن عرفات هو القائد الذي بَقِيَ يتمتع بشعبية في أوساط شَعْبه ). ورُبّما تكون رعايته لتلك ‘الأُمة في المَنْفى’ وحَمْلها على السّير باتجاه التعايش مع اسرائيل هو أحد أهم إنجازاته الأخيرة”.
ويُضيف ؛ ” لقد كان منفتحاً إزاء عددٍ واسع من اليهود مِن إسرائيل ومِن الشّتات ، وأَنْشىء نمطاً من التفاعل بين الناس ، تَمَظْهَر في أنه وعلى الدوام كان يَتَمَوْقَع في منطقة قريبة من المركز أو في المَرْكز (ذاته) ، وجَعَل التواصل فيما بين القِيادة والناس العاديين أمراً دائم الإحتمال على غَير ما هو مُتعارّف عليه في العالم الثالث” .
وقال إدوارد في عَرَفات أيضاً ؛ “وبالرغم من أنه كان مَذمومًا على نحو غير مَسبوق من قِبَل الغَرْب ، فإنَّ الحقيقة الناصعة تَتَمَثَّل في أنه ، وفي أوساط قيادات حركات التحرر في المرحلة اللاحقة للكُولونيالية ، فإنَّ عرفات وحده قد تمكن ، في الحقيقة ، من مَنْع حصول عُنْف واسِع طائفي أو فَصائلي بين الفلسطينيين ، وقد اٌحتمل تعييب الفلسطينيين لَه ، وفي ذات الوقت إنتقادات الآخرين لَه بصَبْرٍ مُذْهِل، ولَمْ يَسمح لمّا يُمكن تسميته بحاسته الخاصّة بالأورثوذوكسيه السِّياسية من إبطال أو كَبْح الحضور لقدر كبير حَي من الـهرطقة السِّياسية في الحياة الفلسطينية”.
ويستكمل إدوارد شهادته في ” عَرَفات ” ويقول :،
“بصفته القيادية ، فقد تَحَمَّل عرفات أيضاً المَسؤولية عن الخسائر الفلسطينية ذات الأبعاد العُظمى . وأنه ليس من عَدَم الصحة بالنسبة لي أن أحاول هنا إلقاء اللوم أو توزيع المسؤولية عن تلك الخسائر ، ولكنَّ كل ما أود ان أقوله في ذلك هو أنه وخلال عقدين من قيادته ، تَكَبَّد الفلسطينيون ليس فقط الفُقْدان المُسْتَمر للأرض لصالح المُستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وفي قطاع غزة ، وإنّما الخسائر الفادحة في أوساط المدنيين والعسكريين الفلسطينيين خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام ١٩٨٢، والإخفاقات المُدَوِّية الذي جاءَت نتيجة لإتفاقيات كامب ديفيد ، ونَتيجة أزمة الخليج في العامين ١٩٩٠/ ١٩٩١ “، ويُضيف ؛ ” وسأترك للمؤرخين والعلماء السياسيين في وقت لاحق إجراء كَشْف الحساب عن قيادة ياسر عرفات للحَرَكة الوَطنية الفِلسطينية وجُملة نتائج الأحداث التي وَقَعَتْ في الأُردن ، ولُبنان وفي سورية — وهي الأحداث التي خَلَّفَتْ تَبِعات مُخيفة على الفلسطينيين ، واللبنانيين، والأردنيين بما لا يمكن الشك به مطلقًا. كما أنَّ الخروج الفلسطيني من بيروت ، والذي حَصَلَ بعد أن لَحِقَ بالبلاد دمار هائل ، وبَعْدَ تسعير مشاعر الكراهية ، وسوء الفهم ، والهدر ، فإن هذه كلها تُشَكِّلُ وَصْمة قاسية في السجل الفلسطيني”.
ويَخْلُص إدوارد سعيد الى القول :
” وإنَّ المرء ليجد نفسه في النهاية مُلْزَمًا بأنْ يقول بأن القيادة السياسية الفلسطينية قد إستخلصت الدروس الصحيحة من الإنتفاضة الفلسطينية التي اٌندلعت في نهايات عام ١٩٨٧ ، والتي لا زالت مُتَّقِدة في الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور ( في العام ١٩٩١/١٩٩٢)”
.ويُضيف ؛ ” يَشْعُر كل فلسطيني بالإعتداد والفخر أنه وفي نهاية عقدين زاخرين بجهود مُنْهِكة وصعبة ، فإن ثورة وطنية مُبْهِرة جداً قد حصلت في الأراضي المُحتلة ضِد الظُّلم واللاعدالة . لقد وَفَّرَت الإنتفاضة مخططاً تفصيلياً للحياة السياسية والإجتماعية للفلسطينيين ، وهي الإنتفاضة التي ما تزال مستمرة ، غير عنفية نسبياً ، مُبْتَكِرة ، باسِلة ، وتتحلى بذكاء مُرْبِك” .
ويَستمر في وَصف مزايا الانتفاضة المُبهرة للفلسطينيين في الاراضي الفلسطينية المحتلة ويقول :
“وبالإستناد الى معايير غير إكراهية من السلوك والذي واجهت بها الإنتفاضة بتفوق المُمارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في المناطق المحتلة ، فقد تَحَوَّلَت الإنتفاضة خلال وقت قصير لتُصبح النموذج لحركات الإحتجاج من أجل الديمقراطية ليس فقط في الجزائر وتونس والاردن وإنّما ايضاً في أوروبا الشرقية واجزاء من اسيا وأفريقيا. وحيثما إقترفت القُوّات الاسرائيلية جرائم إطلاق النار ، والضرب ، والإضطهاد تجاه المدنيين ، فقد تمكن الفلسطينيون من تصميم أنماطٍ من الطرق والأساليب للإلتفاف على تِلكَ الإجراءات وعبور الحواجز: وحيثما حظرت الـسُلطات الإسرائيلية المدنية والعسكرية التعليم أو الزراعة ، نَجَحَ الفلسطينيون في انشاء أجهزة بديلة لعَمَل ما هو ضروري ؛ وحيثما كانت التقاليد المحافِظة في المجتمع الأبوي التركيب ذات المفعول واسِع النِّطاق قد أمْسَكت بالنساء (الفلسطينيات)، واٌستعبدتها فكريًا وأخلاقيًا ، فإن الإنتفاضة مَنَحَتْهُنّ الفُرْصة لإسماع أصواتهنَّ ، ومنحتهم كذلك الصّلاحية والسُّلطة. فمن الإنتفاضة ، إنبعثت الآمال ،والقوّة التي حَوَّلت حَذَر فلسطينيي الشتات وغموضهم إلى وضوح ورؤية صادقة ؛ وهذا ، بالطَّبع ، قد تَجَسّد في التصريحات التي صَدَرَت عن المجلس الوطني الفلسطيني الذي اٌنعقد في الجزائر في العام ١٩٨٨”.
ويُسَلِّط إدوارد الضوء ، على حقيقتين إثنتين تبلورتا بعد إندلاع الإنتفاضة في اواخر عام ١٩٨٧، وتركتا مُنذُ العام ١٩٩٠ ، آثارًا هائلة على مَرْكز الفلسطينيين، وعلى المَواقف الفلسطينية ، ومسُتقبل قضية الشعب الفلسطيني العربي ، وفي هذا يقول :
“ولكن ، ومَع تقدم فَعاليات الإنتفاضة، فقد دَخَلتُ بالحياة الفلسطينية حقيقتان أخريان أدّتا الى إضعافها ، وفَرَضَت عليها أعباء جديدة . الأولى ، وكانتْ بالطَّبع ،هِيَ أزمة الخليج ، وعلى الرغم من أنها إستحضرت جهود التوسُّط الفلسطينية ، لكِنها أيضاً ، فقد وَرَّطَت الأمة كلها في مُسْتَنقع مرعب . لقد أصبحت التّجمعات الفلسطينية في بلدان الخليج في هذه الأيام ( ١٩٩٢) مُيَتّمة ؛أصبح فلسطينيون آخرون مشردين، وتلاشت مُدّخَراتهم وأصولهم ، وآلَ مُستقبلهم إلى حالة من اللايقين . وكما تم التأشير عليه من قبل وليد الخالدي وآخرون، فقد حَصَلَت إخفاقات عَميقة على مستوى المبدأ، والقيادة ، وكذلك لبعض الفلسطينيين (الذين كان بمستطاعهم تحمل ذلك) ولبعض العَرَب والأمريكان. أما النتيجة ، هذا اليوم ، فهي تتجسد في عُزْله دولية ، وبقدرٍ ما، عربية ، لمنظمة التحرير ، وبضربة عمومية لَحِقَت” ( بِما أسْماه إدوارد )” بالأُمة الفِلسطينية”، وهي ضَرْبة كما يقول إدوارد ” ليسَ من المُؤكد أنْ يتم التّعافي منها ، أمّا عندما يَحْصُل ذلك ، فإن التّعافي سَيحصل في موعد مُتأخر جداً “.
” أما الحَقيقة الواقِعة الثانية ، فقد تَمَثَّلَت في الأعداد الهائلة للروس اليهود(وبقدر أقل ، الأثيوبيين اليهود) الذين يُهاجِرون إلى إسرائيل “.
وفي هذا ، يقول إدوارد ؛ “يَتَعَين أن أذكر أن تفاهماً في العام ١٩٨٩ ، قد حَصَلَ فيما بين ميخائيل غورباتشوف والولايات المتحدة ، تم بموجبه حَصْر الجزء الأعظم من إصدار تأشيرات الخُروج للروس اليَهود ( كوتات الهِجرة) إلى إسرائيل فحسب دون غيرها من البلدان “.ويُضيف ؛ “لقد إستتبع ذلك أن الحضور الفجائي للآلاف من الروس اليهود الذين هاجروا إلى اسرائيل قد جاء في ذات اللحظة التي كانت فيها ( عملية ) تغريب الفلسطينيين وحرمانهم من المواطنة في أكثر أشكالها توهجاً” . ويستطرد ويقول : ” هذا وقد إرتفعت صيحات صاخبة ( في ذلك الوقت )تؤكد مقولات إسرائيل الكبرى ، في حين إنطلقت تَوَسُّلات عاجلة وُجِّهَت صوب الولايات المتحدة ، ومجموعات الأغنياء اليهود في الشّتات لنيل الدعم المالي”.
ويصف آثار هذا التحول على الفلسطينيين ، ويقول : “كان ذلك يعني أن الميزان الديمغرافي قد أخذ بالتحول لغير صالح الفلسطينيين، بما يعني وضع ضغط إضافي لصالح زراعة المزيد من المُستوطنات اللاشرعية في الضفة الغربية ( وَهوَ أمرٌ جاءَ في سِياق النّهج العدواني الحربي الذي أخذ به أرئيل شارون )( في ذاك الوقت)، والتي جَعَلَت من عامل الوقت عنصراً مُعاقِباً بصُورة مُنفردة للفلسطينيين ، وهَذا كله هو ما سيطفو ( مَع الوَقْت ) على السّطح وما سنراه” .
ويُردف إدوارد ، ويقول :
“وفَجْأة، بدا أنَّ نَبْضاً مسيحيانياً مُتأخراً قد تحرك الى الأمام من خلال الصهيونية ، ومعه جَلَبَتْ للفلسطينيين ومعاناتهم طَويلة الأَمَد مخاوف مُلازِمة ” .
“وعلى أي حال” يقول إدوارد ؛ ” فإننا الآن في العام ١٩٩٠ ، وليس في العام ١٩٤٧، أو ١٩٤٨. ويبدو أنه لِمَ يَعُد يهم مُتَطَرِّفي مُنَظَّمة ‘غوش إيمونيم’ ، ومُنذ أن إندلعت الإنتفاضة ، أنْ يَنْظر الرأي العام العالمي للإسرائيليين على أنهم خَدَّاعون وقَتَلَة وَحْشِيّون ، فقد بَقِيَت رؤية هؤلاء أسيرة لمفهوم إيقاع العِقاب القاسي بالمدنيين العزل( الفلسطينييين)”.
ويلفت إدوارد الإنتباه الى ظاهرة الإندفاع في عمليات الإستيطان داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة والتي تبلورت بعد العام ١٩٩٠، فيقول :
” إنَّ ما أثار الإهتمام أكثر هو تِلك القوة والإندفاع الصاعق لحركة الإستيطان ، وكذلك المأزق الدبلوماسي المستمر، والتشتت المؤلم ، والإنهيار في المَعنويات ليس في أوساط الفلسطينيين فحسب، وإنما في صفوف العرب بعد حرب الخليج. ”
ويذكر ، انه لا القِيادة الفلسطينية ، ولا الدول العربية ولا المجتمع الدولي قامَ بأي جهد ذو قِيمة لوقف الاستيطان والتوسع به ، وفي ذلك يقول :
“باٌختصار ، لّمْ يَكُ هُناك أي ردع أو إحتواء لتدفق ما بين ٧٥٠،٠٠٠ الى مليون يهودي ( الى فلسطين) ، وكما هو الحال دَوْماً ، فإن الفلسطينيبن سيدفعون الثمن”.
ويُنهي إدوارد ” مُقدمته للطبعة الثانية من كتاب ، برؤية وخلاصة تقول ؛
“ومع كل ذلك ، لا يَمْلِك ، لا الفلسطينيبن ولا الإسرائيليين ، خياراً عسكرياً ضِد بعضهما البعض؛ إنَّ هذه الحقيقة لها فِعْلاً حاسِماً الآن( أي، عند كتابة مقدمة الطبعة الثانية من كتابه “مَسألة فلسطين “، في العام ١٩٩١) ، كما كانت عِندما كتبتُ كِتابي ” مَسألة فلسطين” قبل ثلاثة عشر عاماً (أي في العام ١٩٧٨)” . أما ما يتعين على الفلسطينيين القيام به إزاء هذه التحديات ، يقول إدوارد :
“تبقى مُهِمّة و واجب الشعب الفلسطيني التأكيد على حُضوره على أرضه ، وبإقناع الإسرائيليين ، بأساليب شَتى ومتنوعة ، بأنَّ تسوية سياسية فقط هي التي من شأنها أن ترفع الحِصار الذي يتشاركان في المُعاناة مِنْه ، (وهي الكفيلة بأن تزيل ) حالة القلق وعدم الأمان التي تحتضن الشعبان معاً. نعم، لا يوجد حل مقبول سوى حل الخَيار الـعَلْماني، أي خيار عَلْماني حقيقي”.
بهذا، أكون قد أنهيتُ ترجمة مُقَدمة إدوارد سعيد لكتابه ” مسألة فلسطين ” والتي كتبها في العام ١٩٩١. وأرجو أنا أكون قد ساهمت في نقل رؤى إدوارد ، والتي ، في رأيي ، لا يزال لها مفعول وأثر في أيامنا هذه ، حيث تكبر التحديات وتتعاظم في ظل الآداء الضعيف للقيادة الفلسطينية ، وفي ظل غياب استراتيجية نضال وطني فلسطيني فاعلة فِي جماهيرها ، وفي مضامير وميادين المواجهة.
روما
عبد الرحمن البيطار








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أنس الشايب يكشف عن أفضل صانع محتوى في الوطن العربي.. وهدية ب


.. أساتذة ينتظرون اعتقالهم.. الشرطة الأميركية تقتحم جامعة كاليف




.. سقوط 28 قتيلاً في قطاع غزة خلال 24 ساعة | #رادار


.. -لن أغير سياستي-.. بايدن يعلق على احتجاجات طلاب الجامعات | #




.. هل يمكن إبرام اتفاق أمني سعودي أميركي بعيدا عن مسار التطبيع