الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دشيريات (١)

محمد بقوح

2020 / 2 / 6
سيرة ذاتية


خرجت بقامتي القصيرة، وبجسدي النحيف باكرا، حاملا على ظهري محفظتي الجلدية. لابد من الخروج مبكرا لأصل إلى مدرستي في وقت الدخول المناسب. لأن المدرسة تقع على بعد كيلومترين تقريبا من بيتنا مشيا على الأقدام. وهي المسافة التي كنت أقطعها يوميا إلى مدرستي، السعديين في شكلها المفكك القديم.
في البدء، أفتح باب منزلنا على الحقول الزراعية ل"دا الحسن" رحمة الله عليه. كان رجلا شيخا عندما عرفته كطفل صغير، ربما كنت في سن التاسعة فما فوق. كانت لي معه الكثير من الحوادث الجميلة و الطريفة. كان شخصا وإنسانا شهما، يحب محادثة الأطفال وخاصة الخفيفي الظل مثلي. حين تلتقي الشيخوخة بالطفولة لابد أن يتحقق فعل البراءة.
أذكر أن أعوان "دا الحسن" العديدين، الزراعيين و الرعاة كانوا جميعهم يشتغلون تنفيذا لأوامره. كان الرجل صارما في مواقفه. منهم من يهتم بالنشاط الرعوي الذي يتمثل في رعي قطيع الجمال والأبقار والأغنام. كان قطيعا كبيرا وربما أكبر وأهم قطيع في الدشيرة بكاملها. كما يهتم بتربية ورعاية الحمير والأحصنة. كانت له حظيرة واسعة جدا تضم كل أنواع الحيوانات الأليفة. تجذبني أصواتها المثيرة التي تحدث موسيقى عجيبة، خاصة في المساء حين تلتقي كلها في أمكنة الحظيرة. إضافة طبعا إلى انشغال "دا الحسن" العظيم بقامته الطويلة وابتسامته الدائمة، بإنتاج كل أنماط المزروعات الغذائية المحلية، كالفصة والجزر واللفت والبطاطس و البصل و الكرعة و النعناع والقزبور والباربا..إلخ. أذكر الخدمات الجليلة التي قدمتها تلك المساحات الخضراء الممتدة، من حدود منزلنا المبني بالحجارة والطين، عبر الأفق البعيد شمالا وشرقا، إلى عيوننا الصغيرة الظمأى لتحرر النظر، نحن أطفال المنطقة. ذلك الإخضرار الدائم الذي كان نتيجة للسقي المستمر، ولوفرة المياه الجوفية القريبة من السطح، تلك المياه الصافية الطالعة من البئر غير العميقة من خلال المحرك الذي ما أزال أذكر طقطقاته إلى حد الساعة. حين تجد نفسك بالقرب من تفاصيل أجزاء ذلك المحرك، إلى جانب بناية "الشاريج" المملوء بالماء دائما والذي نحوله قسرا في الصيف إلى مسبح لأطرافنا الصغيرة، تسرقك الدهشة، وتتعجب كيف لهذه الأشرطة البلاستيكية المتداخلة، ولتلك القطع الفولاذية المركبة المفحمة، كتفحم شكل الرجل المسؤول عنها، أن تصنع كل ذلك الإخضرار المتدفق المنعش للروح والمفعم بالحياة..
ذلك اللون الأخضر الذي يترجم بعد أسابيع أو شهور إلى خضروات صالحة للإستهلاك المحلي، كثيرا ما كنا سباقين لأكلها قبل أن يصل إليها العون المزارع، وهي ما تزال طازجة محشوة داخل قشرتها الترابية، خاصة الجزر واللفت. نغسلها في مياه الساقية ثم نأكلها في الحين، و عيوننا تراقب بوابة المزرعة.. يا لذوقها الرفيع وهي تستهلك، خارجة على توها من جوف التراب..!!
كانت تلك المزروعات في أرض واسعة تمتد من حدود ديبو دا العربي جنوبا، إلى عمق دوار إمزيلن شمالا، في اتجاه سور المطار المدني القصير، قبل أن يحول إلى مطار عسكري. من تلك المزروعات الغذائية الطبيعية ما يباع في المحل التجاري الصغير (تحانوت) الذي يملكه "دا الحسن" ، ومنها طبعا ما يحمل على ظهور دوابه ليباع في الأسواق القروية المجاورة، كسوق ثلاثاء إنزكان بطابعه الغارق في بدويته، وسوق تكوين البسيط أيضا..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بوتين يعرض شروطه لوقف الحرب في أوكرانيا • فرانس 24


.. انطلاق مناسك الحج في مكة المكرمة وسط درجات حرارة قياسية




.. سلسلة هجمات لحزب الله على إسرائيل وواشنطن وباريس تسعيان لوقف


.. ما بين هدنة دائمة ورفع حصار.. ما هي تعديلات حماس على مقترح ب




.. جبهة لبنان وإسرائيل المشتعلة.. هل تحولت إلى حرب غير معلنة؟|