الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دشيريات (٢)

محمد بقوح

2020 / 2 / 6
سيرة ذاتية


لماذا أحاول توثيق الدشيرة كذاكرة مكان وإنسان، في طفولتها بالكتابة عنها. لعنة هذه الكتابة تحرجني. التفكير في المستقبل هو رهان التحدي وليس العودة إلى الماضي. ما نفع استعادة تاريخ وجغرافية الدشيرة بالكتابة الأدبية ؟
هل هي محاولة مني، ومن جيلي، لمقاومة النسيان باستحضارها، تاريخيا وحضاريا؟
ربما الجواب عن هذا السؤال يهم الذين يعيشون اليوم خارج الدشيرة من أبنائها الأوفياء، أكثر من الذين يعيشون فيها وبين ظهرانيها. لأن مسألة هوية الإنتماء إلى مدينة أو مكان ما، هو المدخل الأساس إلى الإنتماء للوطن، ومن تم الإنتماء إلى بني الإنسان.
تابعت طريقي إلى مدرستي. البرد قارس. الطريق محجرة ومغبرة. اقتربت إلى البيت المهجور حيث يعيش الشاب المريض باستمرار "بيغربان". هذا هو اسمه أو لقبه. لست أدري لماذا سمي بذلك الاسم. لكن، أعلم علم اليقين أنه شخص يدخل ويخرج وحيدا منحني الظهر من المنزل المعني. يعيش فيه عزلته القصوى. أذكره في حدود العشرين سنة من عمره. طويل القامة، دائم الصمت. لم أسمعه أبدا يتكلم كما يفعل الناس. كثيرا ما يرتدي ملابس قديمة موسخة، وأحيانا ممزقة، تظهر أجزاء من جسده العاري. تساءلت برأسي الصغيرة آنذاك، كيف ترك هذا الشاب يعيش وحيدا ومريضا، و في منزل مهجور، بلا عائلة ولا أسرة ولا أقارب له؟ ولماذا لم تهتم به الدولة. كأن يعتنى به في مستشفى أو في خيرية. رأيته منزويا، أكثر من مرة، يأكل التراب، بل يلتهمه التهاما. أخبرت والدي، فجئنا به معا، في الحين إلى منزلنا. امتنع عن الدخول. تصرف كالعاقل تماما، بالرغم من أنه يشاع بين ساكنة الحي أنه "مجنون" وفاقد لعقله. نظفناه، و أعطيناه ما تيسر من الطعام والشراب، ثم أخيرا حرصنا على أن يغير ملابسه الموسخة والممزقة الشبه العارية بملابس محترمة ألبسها له أبي. كان يأكل ويشرب بشراهة. تابعته أيضا وهو يرتدي الملابس محدثا صوت مهدر مأنن ومأفف.. كصوت هر جريح يموء.. بدا لي كشاب مكتمل الرجولة بعد الانتهاء من ارتداء الملابس. أنيق، لكنه حزين. بعد ذلك خرج واختفى. غير أنني في الغد الآتي رأيته شبه عار، كما كان قبلا. هذا هو "بيغربان". شخص يقبل المساعدة، ويحب الناس، وما يلبث أن ينفتح عليهم، وعلى تغيير أحواله، حتى يعود إلى طبيعته الأصلية. التخبط، والانزواء، وأكل التراب والشرب من مياه الحوض الحار، و ارتداء اللباس الممزق شبه عار تماما. لم يكن عنيفا معنا نحن أطفال دواره. رغم أن البعض منا يستفزه.
بعد مضي سنوات لم نر له وجودا أو حضورا في حينا إمزيلن. قيل أنه توفي بسبب أمراض عضوية كان يعاني منها. وجد ذات يوم جثة هامدة في منزله..
وباختفاء "بيغربان" من دورة حياة حينا، تكون ورقة خضراء قد سقطت من شجرتنا، وصفحة من تاريخ كتاب دوارنا إمزيلن قد طويت. إنه بمثابة سقوط لجزء مهم من المشاهد اليومية لهذا الحي البدوي في زمنه السبعيني. شعرت شخصيا أن نقصا من تاريخ دوارنا قد حصل باختفاء محمد "بيغربان". علمت في ما بعد أن اسمه محمد سامي. اسم بهوية مجهولة..، وبمصير مأساوي حتمي كان متوقعا منذ مدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بوتين يعرض شروطه لوقف الحرب في أوكرانيا • فرانس 24


.. انطلاق مناسك الحج في مكة المكرمة وسط درجات حرارة قياسية




.. سلسلة هجمات لحزب الله على إسرائيل وواشنطن وباريس تسعيان لوقف


.. ما بين هدنة دائمة ورفع حصار.. ما هي تعديلات حماس على مقترح ب




.. جبهة لبنان وإسرائيل المشتعلة.. هل تحولت إلى حرب غير معلنة؟|