الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طقوس الكتابة عند علي إبراهيم دريوسي

علي دريوسي

2020 / 2 / 7
الادب والفن


أعتقد أن علينا ألا نُصدّق كل ما يُقال عن طقوس الكتابة عند المبدعين، حيث ينفصل فيها المُبدِع عن العالم الخارجي لاستحضار الإلهام. إما أن تكون هذه الطقوس الشيطانية في الأصل كذبة أو أنها لم تعد موجودة كما – لعلها – كانت سابقاً عند الأدباء المعروفين عربياً أو عالمياً.

ها هو شيلر الذي لم يكن يكتب إلا بعد أن يضع ساقيه في حوض ماء مثلج. وها هو ماركيز الذي كان لا يدخل طقوس السرد إلا حافياً وجالساً إلى منضدة عليها زهرة صفراء في غرفة معتدلة الحرارة. ولم يكن بلزاك ليبدأ الكتابة إلا في منتصف الليل، مرتدياً ملابس راهب وفنجان القهوة لا يفارقه. بينما اعتاد ساراماغو أن يكتب فقط صفحتين يومياً، بعد الغداء. أما هاروكي موراكامي فهو من الذين يفضلون الكتابة عند الفجر، إذ يستيقظ في الرابعة صباحًا ويعمل مدة ست ساعات، وعند الظهيرة يجري عدة كيلومترات، ثم يقرأ ويسمع الموسيقى وينام في التاسعة مساءً ...

أما أنا، ولأنني لا أحترف الكتابة - إذ أنها لا تطعم خبزاً - فلا أكتب إلا في وقت فراغي. حين أبدأ الكتابة، لا أسعى لتأمين الجوّ الإبداعي المعروف عند الأخرين، إذ أترك كل شيء من حولي على سجيته، على ما هو عليه، أفتح البرَّاد وأجلب لنفسي زجاجة بيرة باردة، أجلس إلى طاولة صغيرة في المطبخ المفتوح على غرفة المعيشة، أُشغّل جهاز اللابتوب، أفتح صفحتي الفيسبوكية لعدة دقائق، أطفالي يلعبون حولي بصوت عال، التلفاز يعرض أشياء لا تهمني، زوجتي تطبخ قربي وبين الحين والآخر تطلب مني تنفيذ أشياء منزلية روتينية: اِجمع أكياس القمامة وانقلها إلى الحاويات، عليك أن تفصل الغسيل الأبيض عن الملوّن وتنزله إلى غرفة الغسيل، غيّر ملابس الصغير، خذه الآخر إلى الحمّام ... ضمن متاهات هذا الطقس العائلي الجميل يزورني في المساء شيطان الكتابة فتراني أبدأ بسرد حكاياتي، بعد أن أكون قد أمضيتُ يوماً كاملاً في إعطاء محاضراتي في الهندسة الميكانيكية وانشغلت لساعتين على الأقل في بحوثي العلمية.

تغلي الأفكار والخلجات في رأسي كما الماء في مرجل على نار هادئة، أفكار كثيرة ومتنوعة كتنوع أقواس قزح، لا طعم للحياة بنوع واحد من الأفكار، كالربيع الذي لا يحلو بنوع واحد من الأزهار، في كل يوم تلد في رحم عقلي فكرة جديدة تصلح أن تكون قصة أو رواية.

ثمة أفكار قصصية تختارني للكتابة عنها، تزورني في أحلامي مثلاً، أو يتكلم عنها أشخاص من محيطي العائلي أو الصداقي ممن لا علاقة لهم بكتابة الأدب، حينها أتناول الفكرة وأصنع منها حكاية، أبدأ رحلة السرد بكلمات قليلة وبعد ساعات أكون قد كتبت صفحات من الأكاذيب الأدبية التي قد تبدو للقارئ واقعية وممتعة ولا سيما حين أسردها بضمير المتكلم. لكن هذا لا يعني بتاتاً أن صياغة القصة قد انتهت، فقد أعود إليها بعد شهر أو أكثر لإكمالها وتدقيقها وتجميلها، فكتابة القصة عمل شاق يتطلب ساعات كثيرة جداً حتى يتم إنجازه، وقد تلعن أحياناً اللحظة التي بدأت بها عملية الكتابة.

هذا ما حدث معي على سبيل المثال في واحدة من قصص كتابي الأخير بعنوان (حجر الجلخ) والصادر عن دار الدراويش في بلغاريا، زارتني الفكرة في حلمي، استيقظت من نومي في الساعة الثالثة ليلاً ورحت أسجّل شفاهية – على جهاز تلفوني – أحداث الحلم الرهيب، في اليوم التالي كتبت القصة تحت عنوان (حين وقع في غرام الرئيسة). وفي قصة ثانية من الكتاب نفسه جاءتني الفكرة حين كنت أتحدّث إلى جارتي الألمانية في السكن، يومها حكت لي شيئاً عن رحلة كفاحها الحياتية وختمت كلامها بالمثل الألماني (المال لا ينمو على الشجر)، فكانت هذه الجملة محرّضاً جميلاً لمخيلتي الإبداعية، فكتب تحت هذا العنوان قصة أظنها مشوقة.

ثمة أفكار أخرى أختارها بنفسي، أبحث عنها بشكل هادف حتى أجدها ثم أترك لها الوقت كي تختمر في مخيلتي، كما حدث معي في قصة (جريمة في شتراسبورغ) وقصة (رقصة زفيتلانا) من كتاب حجر الحلخ.

وهناك قسم ثالث من الهموم والأفكار الصالحة لتأليف القصص والنصوص أجدها تدور في فضائي حرّة كالعصافير، إلا أنه – ونتيجة لصعوبتها وحساسيتها وارتباطاتها – ليس من السهل الإمساك بها وتطويعها لبناء القصص على هيكلها. مثلاً، تلك المقاربات الموضوعية بين الحياة الاجتماعية والثقافية والعلمية في ألمانيا، وحياتنا نحن في المشرق العربي، بالإضافة إلى جملة من الممارسات والأفعال السلبية المشينة لقسم كبير من جيش الهاربين، أولئك الذين استغلوا ظروف الحرب في بلدانهم وفرّوا بأجسادهم إلى أوروبا الغربية ومعظمهم من الهامشيين والعاطلين والمرتزقة. لقد مثّلت هذه الإرهاصات بعض ما تناولته في كتابي (من الرفش إلى العرش) والصادر عن دار أرواد في سوريا والذي قرأه وراجعه لغوياً الأديب الكبير حيدر حيدر وخطّ له كلمة الغلاف.

وثمة أفكار قصصية لا تختارني ولا أختارها، لا تبحث عني ولا أبحث، لا تدور في فضائي ولا أدور في فضائها، بل أجدها منقوشة في خلايا جسدي، في قلبي ووجداني وكياني، وفي لحظات الصفاء أجدها تقفز إلى ذاكرتي تباعاً، وكأنّها تهتف بي: أرح الذاكرة منا أيها الكاتب، حرّر القرص الصلب - رأسك - من ثقلنا، اكتبنا كي نتحرّر من داخلك، دعنا نطير كي نريح دماغك. نعم هذا بعض ما حدث معي حين أرقني الحنين ومزّق نياط قلبي، حنيني وشوقي لقريتي بسنادا في مدينة اللاذقية، مرتع الطفولة والصبا، وناسها الطيبين، فكتبت مستعيناً بذاكرتي البصرية قصصاً كثيرة طريفة ولطفية وحزينة، ووثقتها في كتابي الأول (اعتقال الفصول الأربعة)، والذي ترجمته إلى الألمانية ونشرته لاحقاً في ألمانيا.

أما في كتابي الجديد (والمُسَنَّنات تتعاشق)، والذي سيصدر في الأسابيع المقبلة، فسيجد القارئ بين طياته قصصاً مهمة ذات محرضات متنوعة.

وها أنا الآن أضبط نفسي متلبساً بالكتابة عن موضوعين لقصتين مختلفتين على التوازي:

جاءتني فكرة القصة الأولى قبل عدة أيام حين نظّمت عمادة كلية الهندسة للأساتذة في جامعتنا نشاطاً رياضياً بيئياً – المعروف باسم المسير الجبلي أو الحركلة – وذلك في الغابات الجبلية جنوب غرب ألمانيا. في الوقت ذاته حدث أن زارتني بعد ظهر اليوم نفسه صديقتي، وخلال وجودها مرّ زميلي ميخائيل بمكتبي لغرض علمي. بعد مغادرته علّقت صديقتي: تبدو الكآبة والاصفرار واضحين على وجه زميلك، هل لديه مشاكل عائلية؟ ولأنني كنت أشعر منذ زمن بازدواجيته وقلقه لم أُعلّق على ملاحظة الصديقة، بل حلّقت حينها بمخيلتي إلى البعيد البعيد وبلمح البصر قرّرت أن أكتب قصة عنه، أعطيتها على الفور عنوان (جريمة في الغابة السوداء). هناك وخلال مشوارنا الغابيّ الجبليّ سأتركه في القصة يموت ساقطاً من قمة جبل مخيف، بعد أن انفصل عن مجموعة للمسير لقضاء حاجة ... ولتبدأ الثرثرة عنه لاحقاً بين الزملاء وليبدأ التحقيق الجنائي غبّ موته/انتحاره باستكشاف الأسرار والخفايا والمشاكل في وسطه المهني وبيئته العائلية على حد سواء ...

أما فكرة القصة الثانية والأقرب إلى الرواية فهي تدور عن تخطيط أبطالها بغية تدمير السكك الحديدية للنفق الأوروبي المبني تحت بحر المانش والذي يربط الأراضي الفرنسية بجزيرة بريطانيا.

وفي النهاية قُل لي أيها القارئ العزيز: هل تعرف أحداً يكره دور النشر أكثر من الكاتب نفسه!؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بطل الفنون القتالية حبيب نورمحمدوف يطالب ترمب بوقف الحرب في


.. حريق في شقة الفنانة سمية الا?لفي بـ الجيزة وتعرضها للاختناق




.. منصة بحرينية عالمية لتعليم تلاوة القرآن الكريم واللغة العربي


.. -الفن ضربة حظ-... هذا ما قاله الفنان علي جاسم عن -المشاهدات




.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة