الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شهادة إيميل وديع أبو منّه

دينا سليم حنحن

2020 / 2 / 9
الادب والفن


أبو النمر

شاهد على النكبة.
من مواليد مدينة اللد سنة 1932، أقام فيها حتى يوم وفاته في 7-2-2020، عاصر النكبة، كان في السادسة عشر من عمره، استعاد معي الأحداث التي حصلت، منها موضوع اقتياد الشباب إلى الأسر، اعتبره اليهود صبيا صغيرا لا يشكل خوفا أو ضررا، تركوه وبحثوا عن اخوته، اعتقلوا جميعا.
عمل إيميل في مستشفى الإنجليزي الواقع في عمارة تسمى CMS. أطلق على المشفى أيضا (المجاهدين).
عمل طباخا متطوعا، كان شاهدا على الإصابات التي وصلت المشفى لتلقي العلاج، ضمد الجراح، حافظ على أواصر الصداقة والعلاقات الطيبة مع المصابين والجرحى، واعتبرت مواساته لهم بلسما لجراحهم.
سألته: هل كانت هناك مقاومة حقيقية دافعت عن المدينة؟
أجاب بلغة عفوية: كل هذا تخويت، تخويت كلياتو، هبل، نفخوها، هيه هيه، اللد واللد، ما كان جنس المقاومة عندما دخل اليهود، يمكن كانوا 50 أو 60 رجلا، اقتنى المقتدر منهم برودة، وأراد أن يحارب وحده.
لم تخرج أي طلقة قبل دخول اليهود المدينة، لكن بعد دخولهم حدثت بعض المناورات، سمعنا طلقات من عدة اتجاهات، لم نعلم حقيقة ما يجري، لم نعلم بما يمكن أن يحدث مستقبلا، اعتقدنا أننا قريبون من الانتصار، يعني كل شيء حصل كان بعيدا عن كل التوقعات.
اتبع اليهود عنصر المفاجأة ودخلوا المدينة، حينها قتل كثيرون خلال يومين، لم نفهم ماذا حصل ومن هي الأطراف المتعاركة، ظنت العامة أن الجيش الأردني هو الذي دخل المدينة حتى يدافع عنها، لكن الحقيقة هي أن كتيبة ما دخلت وساهمت بإخراج ضابط أردني من المدينة، استطاع هذا الضابط جمع عدد من الرجال المسلحين حوله حتى يدافعوا عنه في حالة الخطر، بموافقة اليهود، شاهدنا الضابط عدة مرات عندما تجوّل من مكان إلى آخر، وفي القرى المجاورة، كان محتاطا برجاله وقام بالاستطلاع على مجريات الأمور.
لم تكن مقاومة كما يدعي كثيرون، كانت هناك شريحة حملت سلاحا جاهزا للنجدة، مثلا، عندما هجم اليهود على سلمة في محافظة يافا، ذهبت النجدة، أو الفزيعة إلى هناك دون تخطيط، حملوا بنادقهم وركضوا، صرخوا (نجدة.. نجدة..) وأخذوا طريقهم إلى كفر عانة (1).
المقاومة مجرد دعاية وتهويل للأحداث، كانت شبه مقاومة وغير منظمة نهائيا ومنقسمة على نفسها، لكن الفصائل التي دافعت عن المدينة ساهمت لو بالشيء البسيط في تأخير اليهود من استلام المدينة، هم النجدة الوحيدة لكن بانعدام النظام، خسرنا فلسطين بسبب عدم ترتيب الصفوف!
سألته: ما هو الحدث الذي سبّب الفوضى والانشقاق بين السكان؟
أجاب: الاتفاق الذي حصل بين اليهود وبين السيد حسونة، يعد الرجل من وجهاء المدينة وشخصية مؤثرة وموثوق بها. أما بالنسبة للإتفاق فهو كالتالي: تسليم البلد لليهود بطريقة سلمية، اختصارا للعمليات الحربية وحفاظا على الأرواح. الالتزام بالوعود من الطرف اليهودي، أن يعاد الأمن والأمان وحماية العرب. أن يقيم الطرفان العربي واليهودي معا في ذات المدينة.
تم الاتفاق بين الطرفين بعد خروج المئات من مدينة اللد، آخر مدينة سقطت بأيدي اليهود، يعني، حاولوا تعريب المواطنين المختبئين في الكنيسة والجامع، إيمانا من الطرف اليهودي بأن العرب الذين لم ينزحوا بعد سيرفضون البقاء وتقاسم الحياة مع اليهود، سوف يلحقون بالأفواج النازحة، حصل ذلك فعلا، بعد الاستسلام استمرت الجموع بالنزوح، في ذات الوقت، ناشد اليهود الناس عبر مكبرات الصوت الرحيل إلى برفيليا، من هناك عليهم إيجاد الطريق نحو عبد الله والاستقرار في مملكته، يعني نوع من المراوغة المكشوفة اعتبرها البعض اختيار وتفضيل، (أو بتروح إلى برفيليا أو إلى الأردن، المهم ألا تبقى في المدينة، يعني أخرج بهدوء، أنتَ حر باختيارك، كأننا ملكنا اختيارات)! ساهم حسونة بخروج الجموع بهدوء، صراحة وجدها فرصة مناسبة للحفاظ على الأرواح سالمة وبدون إراقة المزيد من الدماء، قرار حكيم من رجل محترم.(2)
سألته: كيف كان وضع المدينة قبل النكبة؟
أجاب: عشنا حياة عادية جدا، داومنا في المدرسة الأهلية ومقرها الدير، استأجر الأساتذة حاقورة القورة وفتحوا فيها ثلاثة صفوف إضافية، كنا شباب من خيرة شباب المدينة، شغفنا كبير بالقراءة والتعلم، درسنا على يد مدرّسة تدعى بديعة وهي من القدس، درستنا أيضا المربية ثريا حنحن، ابنة أبو خليل حنحن وهي من اللد، أما باقي الأساتذة فجاءوا من خارج المدينة.
سؤال: ماذا حصل لعائلتك أثناء سقوط المدينة وكيف تسنى لكم البقاء؟
أجاب: أقمنا خارج حدود البلد تقريبا، في حينه، اعتبرت منطقتنا خارج المدينة لذلك لم تصلنا التهديدات بالرحيل، أيضا، لم تصلنا الأخبار ولم ندر ماذا يجري من أحداث، اللهم ما كان يصلني أنا في المشفى، والمشفى موجود في قلب المدينة، لكن وللأسف الشديد، عانى أهل اللد من خيانات المتعاونين، أخذوا على عاتقهم مهمة تفريغ الناس من بيوتها، اللهم اسم واحد لا يمكننا نسيانه، حمزة صبح، مقاوم شريف، دافع عن المدينة وأسس قيادة أخذت مقرها في المدرسة مع عدد من القادة المدربين، خدم صبح مع الجيش الأردني أيضا، لكنه لم يستطع السيطرة على الفوضى التي استتبت بعد أن اقتنى بعض الرجال الذين افتقروا إلى التدريب، البنادق الخاصة بهم، أرادوا المحاربة دون الخضوع إلى الأوامر، يعني حصل ما يشبه الانقسام بين الصفوف.
أما بالنسبة للمتسللين، لنسمي تلك الفترة بعد سقوط المدينة، فترة الفوضى العارمة، استمرت سنتان ثلاثة، استقر المتسللون في مكان بجانب دير اللطرون على الحدود مع الأردن، وعملوا "خاوى".
سؤال: شو يعني "خاوى"؟
أجاب: ساعدوا النازحين باستعادة نقودهم ومدخراتهم التي دفنوها قبل رحيلهم، تبدلت مهمتهم، انحصرت في البحث والنبش عن المدخرات وإعادتها لأصحابها مقابل الحصول على حصة، لكنهم، وللأسف، قاموا بسرقة أي شيء أمكنهم الحصول عليه لتأمين معيشتهم، سرقوا حتى شوالات البرتقال، حملوها على ظهورهم من البيارات وهربوا بها، كان ثمن الشوال الواحد قرش واحد فقط، لكنهم سرقوها وباعوها للمحتاجين، شاعت عمليات السرقة في المدينة أخافت السكان المحليين.
بعد السقوط،
وصلت أفواج اليهود المهاجرين إلى فلسطين من مطار اللد مباشرة، أو ربما انتظروا في مكان ما على طريق المطار، مرت قوافلهم أمامنا عندما أغلقت الهغانا علينا بالسياج ونحن خارج بيوتنا، قاموا بمساعدتهم بالاستيلاء على بيوتنا التي كانت مؤثثة بالكامل، توفرت فيها المؤونة فيها، سكنوا في بيوتنا وما تزال رائحتنا فيها، بينما انتظرنا نحن للإفراج عنا وإخراجنا من الغيتو الذي وضعونا فيه بحراسة مشددة، عندما خرجنا من "الغيتو"، أغلقوا علينا المدينة سنة كاملة، لم نجد بيتا نأوي إليه، نمنا في الخرابات والأماكن الفارغة، ومنعنا من التجوال، من عاد إلى بيته كان محظوظا.
سؤال: كيف بقيت في اللد؟
أجاب: لقد سجلت أسماؤنا في الصليب الأحمر، لذلك لم يستطع اليهود اخراجنا من المدينة لأن وجودنا أصبح رسميا، المحظوظ هو الذي لم يخرج من الكنيسة ولم يختر سبيل الهرب، ذات الحال للذين اختبأوا في الجامع والمستشفى، يعني كنا قلة وبقينا، لم نخش البندقية المصوبة نحونا، امتثلنا لأوامرهم ليس خضوعا وانكسارا بل عنادا وتمسكا في أرضنا.
بعد ذلك،
اقتنينا بيوتنا من اليهود، عملنا وكسبنا لنستعيدها، بعد انتقال العوائل اليهودية إلى عمار جديد، اشتريناها بنظام المفتاحية، ثلثين وثلث لأن بيوتنا أصبحت تابعة للحكومة.
لم يصب أحد من جماعتنا في النكبة، لكنني أذكر من قتل من أبناء المدينة، أمين حنحن، قتل على الطريق، سليم قتل بجانب البالية في الشارع، قبل أمين، الاثنان من عائلة حنحن/ دار أبو سليم أبو شنوب من عائلة حنحن أيضا، أقاموا بجانب عائلة العزوني ودار أبو خليل، ملكوا بيوتا في مركز البلد، أخي سمعان كان تاجرا عند دار حنحن واستأجر بقالة منهم.
أردف مستذكرا:
قتل خميس الحبش بالرصاص، ثم قتلت شقيقة جورج الحبش في الشارع عندما حاولت العائلة الفرار، احتار أهل البيت بالمصاب الأليم فقررت الأسرة العودة بالجثة، دفنت في البيت، عندما علم الجيش بذلك أصر على نبش القبر للتأكد من صحة الحادث وإن كان القبر خاليا من الأسلحة.
عمل الدكتور جورج كمتطوع في المشفى، رجل مثقف وحكيم، اختفت آثاره فجأة، آخر مرة رأيناه فيها عندما وصل جريح يدعى مصطفى عفانة، كان بحالة حرجه، بسبب نفاذ الدواء والعتاد من المشفى اضطر الدكتور حبش اصطحابه إلى المستشفى المتنقل، تابع للبعثة المصرية، كائن في مدينة الرملة، نقلتهما مركبة خاصة، لم يعد الدكتور نهائيا إلى اللد.
بعد سنين وصلتنا معلومات من صموئيل ابن اللد، قال إنه التقى بالدكتور الحبش في الرملة، ومكث معه فترة ما، وقاما بتطبيب الجرحى معا، لكن عاد صموئيل وحده إلى اللد بعد انتهاء الحرب ولم يعد الحبش.
تشردت الناس وذهب كل واحد إلى جهة، قتل جميع من اختبأ في جامع دهمش، حادث مريع ومؤلم.
سقط المختاران الياس الحلتة وأبو قسطندي العزوني بين فك الكماشة، اشتد الضغط عليهما من قبل اليهود، لكنهما لم يستسلما، اتصفا بمواقفهم الوطنية وامتازا بالحكمة وحسن التصرف والصبر، رجال بكل معنى الكلمة، دافعا عن وجودنا وبقائنا، رغم التهديدات والتعذيب لم يتنازلا عن أملاكهم لليهود.
بعد النكبة، عشنا معا مسيحيون ومسلمون في مودة واحترام، حتى الآن، حملنا هم واحد وأغرمنا أكثر في مدينتنا.
أما يافا فأمرها مختلف جدا، رحل أهلها عنها بهدوء تام، انسحبت الجموع بدون إحداث أي ضجة أو شوشرة، أودعوا مفاتيح بيوتهم بأيدي الحراس، كان لكل بيت بواب أو حارس مسؤول عنه، بعد انتهاء الحرب، لم تعد العائلات وذهبت بعد ذلك جميع الأملاك إلى الحراس والخدم والبوابين، أما الفقراء فقد نزحوا مع ركب النازحين، حملوا معهم الأثاث وكل ما يمكن حمله.
أخوة إيميل أبو منه: اندراوس، خليل، سمعان، فايق، خميس، فيليب، نجيب، نعيم.
...

(1) كفرعانة: قرية تبعد مسافة 11 كم شرق يافا، يعود مصدر الاسم إلى قرية عونو الكنعانية. حتى عام 1945 كان عدد سكان القرية ما يقارب 3000 منهم 220 يهودياً. واحدة من مجموعة القرى الواقعة شرقي يافا، احتلت في سياق عملية درور التي نفذتها قوات الهاغاناه. من المرجح أنها سقطت يوم سقوط قرية ساقية المجاورة.
(2) لمزيد من التفاصيل نجدها ضمن كتاب (ما دونه الغبار، دينا سليم حنحن).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في