الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المنزل المنحوس

دلور ميقري

2020 / 2 / 10
الادب والفن


ما الذي كان يدفعني يومياً للمرور على الجسر الهائل، الفاصل بين جزئي المدينة الصغيرة، أين أقيم منذ أحد عشر عاماً، لولا أن شخصيتي نفسها منقسمة إلى جزأين؛ أحدهما جسدها في بلد الصقيع هذا، والآخر روحها في موطن الأطلس الدافئ؟
الجسر نفسه، فظ المنظر بحديده واسمنته المسلح. لكن إطلالته لا بأس بها؛ إن كان على خطوط سكك الحديد المتشابكة، حيث القطارات الأنيقة تعبرُ بشكل دائب يوحي بأهمية موقع المدينة برغم صغرها نسبياً، أو ما يظهر من الأبنية الأثرية وبالأخص الكنيستين، اللتين تتمتعان كل منهما ببرج سامق. وهو ذا منزلٌ قديم، يلفت نظري مع أنني أمر به يومياً لدى الذهاب والإياب. كان يقوم قبل نهاية الجسر، فينخفض سقفه المدبب، الخالي من القرميد، إلى مستوى الطريق تقريباً، تنفتح من جملونه نحو ثمانية عيون، تحدق في الفراغ كونها هيَ أيضاً فارغة. وكان ثمة نوافذٌ مربعة الشكل، أسدل عليها الأباجور بشكل دائم، ما يزيد من إيحائية قفر المنزل من ساكنيه منذ مدة غير معلومة. بيد أنها معلومةٌ، بالنسبة لي على الأقل، تلك الليلة التي رأيتني فيها في مواجهة مع ما لاحَ، للوهلة الأولى، أنهم أشباحُ ذلك المنزل.
عادةً، عندما أخلد إلى قيلولة عند حلول العتمة، أكون قد عاقرتُ النبيذ مع العشاء، المعوّض دائماً تقريباً وجبةَ الغداء. ثم أفيق كيفما اتفق، لأنني لا أملك منبهاً ولا موبايلاً حديثاً؛ أفيق، غالباً، كي أسهر على الكتابة إلى ساعة متأخرة من الليل. في الليلة تلك، الفاصلة بين القيلولة واليقظة، رأيتني أرتدي ملابسي ومن ثم أسير كالمنوّم مغناطيسياً؛ مثلما يُقال. أحياناً في الأيام الحارة، أتوجه دفعاً للضجر، ورغبةً في رياضة المشي في آنٍ معاً، إلى ناحية محطة القطارات أو إلى ما يقابلها من مبنى غراند أوتيل الفخم. حين كنتُ أجلس في ساحة هذا المبنى الأخير، حيث نافورة مزينة بحورية تمسك في يدها سمكة ذهبية، تنتابني الرغبة في كتابة رواية ذات شكلٍ بوليسيّ، تقع أحداثها الرئيسة في الأوتيل. وهيَ فكرة، غير معزولة عن متابعتي أسبوعياً لسلسلة أفلام " مسيو بوارو "، المستلهمة قصص أجاثا كريستي. لكنني تفطنت في خلال سيري، شبه الرياضيّ، إلى أن وجهتي ليست أياً من ذينك المكانين، الموسومين. لقد كنتُ الآنَ استهل بقطع الجسر الكبير، بينما طريقي المعتاد أثناء رياضة المشي الليليّ، كان مختلفاً، ولو أنه يقع تحت هذا الجسر. ثمة، عند اقترابي من المنزل القديم ذي الأعين الفارغة، كان الضبابُ يخفيه قليلاً ولعله كان سبباً في اختفاء أثر السيارات العابرة علاوة على المشاة. على حين فجأة، مثلما يقال في الروايات البوليسية ( مع أنني أروي قصة واقعية )، ظهرَ أولئك الأشباح خِلَل الضباب. ثم ما لبثوا أن أمروني باللغة العربية أن أنضم لمجموعة بشرية ما. كانت لغة الأشباح أقرب للهجة بدو المدن الوسطى، السورية.
" أمامكم هذا المنزلق، المصفّح بالفولاذ الصقيل، وكل من وصل سالماً إلى القاع ثم عاد إلينا، يُقبل في التنظيم السماويّ "، هكذا كان ينادي أحدهم عبرَ مكبر صوت يحمله بيده. عندئذٍ تمكنت من تمييز وجوه المجموعة، ولم يكن بينها ما يدل على أنه سويديّ. بل كانوا يتكلمون همساً باللهجة الشامية، خالطين كالعادة إرادةَ الإله بتصرفات عباده. أطللتُ على المنزلق، لأرى أنه شبيهٌ بجدار منحن قليلاً وبشكل تدريجيّ، وكان على كل من جانبيه سلمّ حجري ضيّق يتسع لشخص واحد. قلتُ في نفسي: " لعلهم دواعش، أولئك الأشباح، وهم يمثلّون دورَ حراس الصراط الإلهيّ؟ ". لكن عدمَ حملهم السلاح، أمرٌ محيّر؛ اللهم إلا أنهم أرادوا إظهار احترامهم لقوانين البلد أو ربما هم على ثقة من طواعية المجموعة البشرية الأشبه بالأسرى.
" أنتَ، يا هذا، استعد لأن دورك القادم "، هتفَ فيّ حامل مكبر الصوت. رهابي من الأماكن المرتفعة، عانيتُ منه طوال عمري. وها أنا ذا أمام تجربة معه؛ وأي تجربة! لكنهم دفعوني دفعاً حين انتبهوا لترددي. وجدتني أنزلق بنعومة إلى الهاوية، وكنتُ قد خططت سلفاً للاستعانة بحاجز السلم الأقرب لي كي أخفف من سرعة النزول. قلة قليلة، كانت تستعمل هذا السلم، وكانوا من الملتحين بصورة بشعة؛ يشجعونني بالقول: " أنتَ من الفرقة الناجية بإذن الله! ". لكن إذا بصبيّ في عمر الطفولة بعدُ، ينزلق بالقرب مني، وكان ينظر إليّ ضارعاً أن أساعده. يا إلهي! كم كانت في نظراته من الرعب والأمل معاً؟ فكرتُ بسرعة، أنني لو حاولت مساعدته فإنني على الأرجح سأفقد توازني وحياتي أيضاً. صحتُ فيه بإشفاق: " افعل مثلي، تمسك بحاجز السلّم "
" إنني لا أطوله، يا عم.. أرجوك، أمسك أنت بيدي "، رد عليّ قبل أن يبدأ بالتواري عن عينيّ مع انزلاقه السريع في الهاوية. صرختُ فيه، أنني لن أتركه. وكنتُ عند ذلك قد أطلقت يدي من الحاجز، لأنزلق بدَوري في سرعةٍ جنونية بحيث لم أعد أرى سوى الضباب ولم يعد يتناهى سوى صراخي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج عادل عوض يكشف كواليس زفاف ابنته جميلة عوض: اتفاجئت بع


.. غوغل تضيف اللغة الأمازيغية لخدمة الترجمة




.. تفاصيل ومواعيد حفلات مهرجان العلمين .. منير وكايروكي وعمر خي


.. «محمد أنور» من عرض فيلم «جوازة توكسيك»: سعيد بالتجربة جدًا




.. فـرنـسـا: لـمـاذا تـغـيـب ثـقـافـة الائتلاف؟ • فرانس 24 / FR