الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما قبل الهروب...

هاشم عبدالله الزبن
كاتب وباحث

(Hashem Abdallah Alzben)

2020 / 2 / 10
الادب والفن


عاش ثلاثين عامًا هُنا، واليوم هو هُناك في مكان بعيد وبارد لكنه "أفضل من هُنا" من كل النواحي.

وُلد "ن" في بلدة نائية، سُرعان ما تغيّرت وتضخمت، المباني والشوارع والناس جميعهم تغيّروا... أمضى طفولته كأي طفل تلقى تعليمه المدرسي في مدارس حكومية، وفي أسرته كان الإبن الأوسط غير المُدلل، وكان يمتلك إرادة وتصميم ذاتي ليكون ناجحًا وله دور مُعتبر في مجتمعه وفي وطنه... وبالفعل مرّت السنوات، ليُنهي الثانوية ناجحًا ولكن... ليس نجاحًا يُؤهله للدراسة في جامعة حكومية، لذلك سجّل في جامعة خاصة وكان يعرف حجم التكلفة التي سيدفعها ثمنًا لدراسته، ولكن لا ضير...

بدأ الدراسة في تخصص "الهندسة الكيميائية". إختار هذا التخصص بناءً على رغبته الشخصية، فقد بدأ حلمه بدراسة الهندسة الكيميائية منذ الصف العاشر، ففي تلك المرحلة التي تتميز بـ"البدايات"؛ بداية الوعي الذاتي، وبداية التمرد والسعي نحو المكانة، وبداية الغرق في الأحلام الوردية بما يخص المستقبل القريب والبعيد(الدراسي والعملي والإجتماعي) في ذلك الحين، لم تكن توقعاته مُرتفعة جدًا، فهو لم يزل "غُرًا" في كل شيء... منذ بلوغه وحتى عامه التاسع عشر، كان يتطور معرفيًا وعقليًا ببطئ، وكانت الأحكام المُسبقة والصور النمطية تُشكل وعيه بشكل عام، وتتسرب إلى وعيه قطرات جديدة من الواقع؛ ليبدأ وعيه "يتسمم" بالواقع وحقيقته المُدهشة والفجّة ... وبدأت الأسئلة تنمو في ذهنه، وتتضخم وتقسو، وبدأ وهو في ذلك السن يشتبك بأفكاره الطرية والناضجة للتو والضعيفة مع الأحداث الكبيرة والصغيرة، القاسية والأقلُّ قسوة...
كانَ دائمًا في قَلق يتفاوت في حدته، بينما المخاوف تتراكم وتتمدد لتملأ عالمه الصغير، ويُصبح عالمًا مُمتلأ-مُحتقنًا يكاد ينفجر أو ينهار... لم تكن رغباته/أحلامه كبيرة وكثيرة، وحتى تساؤلاته لم تكن وليدة هواجس وأوهام أبتدعها ذهنه... كان يرغب بأن يكون مُنتجًا-فاعلًا، وقبل ذلك مُتعلمًا علمًا مفهومًا، يمسُّ الواقع ويتعلق به، لا مُجرد دراسة تتجسد في التلقين والحفظ وإفراغ المحفوظات على ورقة مصيره "العلمي" يحتكم إليها، لينجح في مساق حفظه جيدًا، ويرسب في آخر لم يستطع حفظه، وهكذا تمضي دراسته الجامعية، جافة ومُملة وصراعية..
وكانت التساؤلات تعصف في عقله بديهية وعصيّة، مخاضُ ولادتها عسيرٌ جدًا، ليُولد التساؤل غالبًا مُشوهًا ومشلولًا... تدور تساؤلاته في فلك واسع، حول هويته الشخصية؛ من هو حقـًا؟
ومفاهيم مألوفة بَدت غريبة وتحتاج لإعادة نظر، كمفهوم الوطن والمواطن والمجتمع والنظام السياسي والحكومة والشعب والقضايا الوطنية والإقليمية و و... وهكذا كان "ن" يُصارع أشباحًا ووحوش، ويطمئن حينًا ليضطرب ويختلُّ توازنه المعرفي أحيانًا كثيرة، لم يكن يُفكر أو تخطر على باله فكرة الهجرة-السفر (البحث عن الحياة الكريمة خارج حدود الوطن)، وإذ ذاك وهو لم يتجاوز العشرين من عمره، كان خياله المُستقبلي يتناول إستقراره العاطفي، وتخرجه بتقدير جيد أو جيد جدًا، ليجد عمل بصعوبة ليست بالغة، ويبدأ حياته الحقيقية عاملًا في مجال تخصصه، ويُصبح جاهزًا للزواج وللحياة بشكل طبيعي مثل الآخرين... نعم، كان "ن" لا يفهم ولا يتقبل نمط الحياة التقليدي، حيث يعيش الإنسان وفق قواعد إجتماعية حتمية ومرحلية، لكنه أيضًا لا يُريد الصراع مع الواقع والتميّز الوهمي،

و"ضربات القدر" كانت تصفعهُ.. لم تكن كثيرة، لكنها مُؤثرة جدًا، صدمات ثقافية ونفسية، ومشاعر خوف مُبهم وإغتراب... وفاة صديق، تقدم والديه في العمر، سعيه للحب وفشله، وفاة والده وهو في عام التخرج، عجز أمه، شعوره باللاجدوى واللافهم... وتمتصُّ تلك الضربات لحظات جمالية نادرة، تستنفر شعوره الكسول لينشط، وينتابه الشعور العارم بالحياة... ويختلط شعوره ذاك بطبعه الكئيب الذي أكتسبه من البيئة المُحيطة وجيناته الوراثية، ليكون الشعور النشيط والحي ناقصًا مهما بدى ضخمًا،

و"ن" من فئة المُناضلين في سبيل قضية "مصيرية" يجب أن تكون "إجتماعية"، ولابدَّ أن تتأثر القضية بأمور شخصية، ومع هذا المزج المُحرم، كان يخوض نضاله في مُحيط رتيب وكسول، وتعترض نضاله الحركي والتنظيري صعوبات جمّة، يحاورها، يشتبك معها، ينتصر ويخسر، في داخله قوّة كانت قوية جدًا تتسرب طاقتها مع الوقت، تضيع الطاقة وتترك فراغًا من تعب، يتسع الفراغ... وهو يشعر بذلك.

المُعيقات التي تُعيق المناضل، بأنواعها ودرجاتها المُختلفة، بعضها لا يُمكن تجاوزه... فالمناضل قد يملك مُعيقات ذاتية لا يُدركها، وتتحد بمُعيقات الخارج التي تتطلب الكثير من المرونة والصلابة لمواجهتها، وإلا سينغمس المناضل في أوحال المُعيقات ويغرق هُناك... و"ن" وجد نفسه "مشلول الإرادة"، طاقتهُ تذوي وتذبل، ومع نهاية عقده الثالث كان قد "هُزم تمامًا".

وحينها توقف. لم تكن "هزيمته" قد إكتملت، لكنها كانت هزائم صغيرة كثيفة وثقيلة، باتت عبئ داخلي وخارجي، ينأى بحمله... وللوهلة الأولى أحسَّ بالوهم، بأنه كان "واهم" جدًا، وضيّع وقته في اللاشيء، صارت السنوات الماضية مشاهد يراها ولا يعرف حقيقتها... في ذهنه إزدحمت الأشياء التي عايشها، والوجوه والأصوات والأحداث والأفكار وكل شيء تمامًا، شكّل عاصفة تدويّ هبّاتها في رأسه... وأمام المرآة لم يعرف هذا الشخص الواقف إزاءه!...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل