الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإصلاح: وراء در

يوسف مزاحم

2006 / 6 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


لكل زمان دولة ورجال، ويبدو أن لكل زمان مصطلحاته أيضاً، ولعل من أكثر الكلمات التي باتت تثير الاشمئزاز والضجر في نفوسنا كلمة الإصلاح. لا تكاد تخلو نشرة أخبار أو برنامج ثقافي أو ديني أو سياسي أو اجتماعي (وأحياناً برامج الأطفال والمسلسلات المكسيكية المدبلجة) من هذا المصطلح الذي أصبح مقيتاً بالفعل.

الإصلاح من الداخل والإصلاح من الخارج والإصلاح من كوكب المريخ. لا بد ويجب وينبغي ويتعيّن ولا مناص من حتمية الإصلاح. لا يهم أي إصلاح. قد يكون إصلاح السيارات أو إصلاح الطرقات أو إصلاح أسلاك الكهرباء المتناثرة في كل شوارعنا وحاراتنا أو إصلاح تمديدات المياه والصرف الصحي بعدما عمت "خيراتها" طرقاتنا ومسالكنا. المهم أن "تصلح". تعديلات وزارية وانتخابات خلبية واستعراضات إعلانية وبرامج منحطة و"منفتحة"، لا يهم، كله إصلاح. وليت الهدف النهائي إصلاح الأجيال، لا، المهم إصلاح أمريكي بامتياز، "إصلاح" المناهج الدراسية التي باتت تدرّس قصص العفاريت والجن والأساطير التايلاندية والأوهام وبساط الريح، وعبر إصلاح الإعلام أصبحت برامجنا مقابلات واتصالات وإعلانات فارغة المحتوى والمضمون، وبإصلاح السياسة صار مسموحاً مناقشة قيادة المرأة للسيارة وتبوؤها منصباً في البلدية وخروجها من البيت بشعر أو بدونه!

ويبدو أن هذا الإصلاح يبقى دوماً رهن إشارة الوالي، فإذا أمر مولانا بإصلاح الطرقات صار ذلك فرض عين، وإن أمر مقامه العالي بإطاعة الدستور صار كتاباً مقدساً رغم أن نصف الشعب لا يقرأ ولا يكتب، أما إن أمر- أدامه الله- بتعديل الدستور صار التعديل كتاباً مقدساً (طبعة ثانية). أما من هو فوق الوالي، فإذا رأى في المخدرات والدعارة "إصلاحاً سياحياً" فما على الوالي إلا الطاعة وما على الرعية إلا "الإدمان"، وإذا رأى في النزول إلى الشوارع في عروض أزياء وثرثرة وتعارف بمسمى الثورات البرتقالية والصفراء و"البنفسجي" و"الكحلي"، وجب على الوالي لملمة ما غلا ثمنه وخف حمله والاكتفاء بما ملأ به بطنه وكروش حاشيته على مدى عقود طويلة.

لنأخذ نفساً عميقاً. بدأت سلسلة حلقات تلفزيونية مثيرة في بلد عربي مهم تُعرض على مرأى ومسمع ملايين المشاهدين، ولم تكن إثارة هذا الحلقات نابعة في الواقع من كونها مسلسلاً بوليسياً أمريكياً يقتل في الشرطي الأمريكي شبه الأعزل ألف مجرم في الساعة ليتوج جهوده بالإمساك باللص "الشبح"، وليست إثارتها لكونها لأحد فناني وفنانات "عصر النهضة" العربي الواعد، ولكن إثارتها جاءت لكونها اعترافات لأناس مواطنين صالحين (أو هكذا يُفترض بهم) في ذلك البلد قضوا "بضعة أيام" في "جنان" و"قصور" وحولهم "أنهار" ولكن من دم "مصفى" و"لحم" ليس لطيور وإنما للقوارض والأفاعي الجائعة، وهذه "الأيام" بالطبع "كخمسين سنة" مما تعدون. والطريف أن تسميتها كانت "سنوات الرصاص" الذي ربما كان يضرب في الهواء ابتهاجاً باستقبال آلاف "المواطنين" في "مقصوراتهم" الانفرادية. لا بأس من الإصلاح، نعلم أن لكل معركة ضحاياها، فلا بأس بالتضحية بجيلين على سبيل التجربة، ونحن الآن على طريق الإصلاح، محطة أخرى من محطات قطار الشرق المتعب والمنهك والمثقل بالآثام والشرور والجرائم وسفك الدماء.

"هيا بنا نصلح"، برنامج تلفزيوني سيكون بديلاً لبرامج من نوعية "هيا بنا نلعب"، على أن يُعرض الساعة الثالثة صباحاً حصرياً على قناة مشفرة، ولا بأس أن يحتوي على بعض "القضايا المعاصرة" كالضعف الجنسي الذي بات أهم من الضعف العقلي، والشذوذ الجنسي على اعتبار أنه أهم من الشذوذ السياسي والاجتماعي، و"الجوع العاطفي" وهو أكثر أولوية من جوع البطون في البلاد العربية العتيدة.

"الإصلاح لا بد أن ينبع من الداخل"، حسناً، ولكننا نتمنى أن نعلم من "داخل" ماذا؟ إن أصحاب هذه المقولة (وهم عادة الحكام والسلاطين والفقهاء ومن تبعهم وناصرهم إلى يوم الدين) يدركون تماماً ما يقولون. ففي الداخل لا يوجد شيء، فتشوا بأنفسكم، وهناك جائزة كبيرة لمن يجد عقلاً في أحد الزوايا، أو لمن يجد كتاباً (سوى على الأرصفة) أو لمن يجد "إنساناً" في أحد الكهوف. وعلى اعتبار أن المذكورين بين قوسين "في كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون" وتم اختيارهم بمهارة لاحترافهم الكذب والنفاق و الاستخفاف بالبلاد والعباد، فهم يعون تماماً أن هذا "الداخل" هو مقبرة جماعية كبيرة أو حظيرة لكائنات تتغذى على ما يُرمى لها من فضلات "الموائد العامرة" وفتات حفلات "الجلوس" و"القيام" و"الطهور" و"الولادة" وحتى الوفاة.

"هيا بنا نصلح"، يقدمه على الهواء مباشرة الحاكم بأمره، ويعده ثلة من خيرة المستشارين والمحللين (والمحرّمين أيضاً) والمنظّرين (وهم بالمناسبة متطوعون لا يتقاضون أجوراً وإنما بعض "الهدايا" الرمزية كبيرة الحجم أحياناً) ويخرجه أصحاب الفضيلة (والرذيلة) من المشايخ وأتباع الطريقة النقش حجرية، مع العلم أن هذا البرنامج مخصص للرجال الآباء حصرياً، لأنه يحتوي على مشاهد عنيفة في احتقار الزوجة واضطهاد البنات والتنكيل بالأبناء ودروساً خاصة في الاستبداد والنفاق حتى تبقى هذه "القيم الأصيلة" متوارثة عبر الأجيال يحمل سرها كل منا إلى "نسله الطاهر".

"نرفض فرض الإصلاح من الخارج". هنا كان يحضرني للوهلة الأولى بيت المتنبي "عش عزيزاً أو مت وأنت كريم"، ولكن هذا كان فيما مضى، أما مع مستجدات العصر فالعيش عزيزاً هو الطعام والشراب وإرضاء السلطات، أما الموت فلا شيء يستحق التضحية. نعم نحن نرفض الإصلاح من الخارج ولكن مع "بعض" الاستثناءات. فما المشكلة في دعايات التدخين والإدمان والتي تمنعها الولايات المتحدة في إعلامها الداخلي ويعوضها عن ذلك الإعلام العربي "الحر"؟ بل ما المشكلة في تطوير الفنون لتواكب روح (وجسم وكافة أعضاء) العصر؟ ولا أرى ضيراً في نهب المتاحف وإحراق الكتب الأثرية وقتل آلاف الأبرياء بهدف تخليصهم من شخص واحد له رأس واحدة ويدان ورجلان "يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون"؟

قمعنا النساء ألف عام ثم فاجأناهن بحشوهنّ في كل مكان كيفما اتفق لأن الدين يكرّم المرأة ولا بد من الإصلاح والتطوير والتحديث. ليس مشكلة وجود 45 % من النساء العربيات أميات، المهم أن تعرض الشاشات صور مجالس الشعب والنواب (أو ما شئتم تسميتها) وقد امتلأت بالنساء اللواتي يعتقدن أن هذه المجالس هي صالات للسهر. مسكينة أيتها المرأة، كنتِ الفريسة قبل الإصلاح وأصبحت الضحية بعده. حسناً، لن تغرورق عيوننا بالدموع، ولكننا لا نريد إصلاحاً من الخارج، لا نريد ديمقراطية أو حرية رأي أو علم أو تكنولوجيا مفيدة أو جامعات متطورة أو تعليماً هادفاً أو شوارع نظيفة أو كرامة إنسانية، فهذه كلها ترهات، نريد إصلاحاً من الداخل، نريد المزيد من العبودية والتخلف والقيود والجهل والمهانة حتى يأتي الإصلاح. ولكن يبدو أن "كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول". ويموت جيل ويأتي آخر ونحن نجترّ تخلفنا وعبثيتنا وعبوديتنا ونرضعها أبنائنا وبناتنا سماً ناقعاً من السلبية والهامشية يجعلهم أمواتاً وهم أحياء لا همّ لهم إلا الزواج أو الهجرة.

وآخر الكلام: يقول المتنبي
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم

دمشق 31/05/2006








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف سيؤثر تقدم اليمين الشعبوي في الانتخابات الأوروبية على مس


.. يوسف زيدان يتحدى علماء الأزهر ويرفض تجديد الخطاب الديني | #ا




.. جهود أميركية مستمرة لإبرام هدنة في غزة على وقع عمليات إسرائي


.. اندلاع حريق شمال هضبة الجولان إثر عبور طائرتين مسيرتين من جه




.. نتنياهو أسير اليمين…وأميركا تحضّر للسيناريو الأسوء! | #التاس