الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(كعناق بين شارعين- سوزان عليوان في ( كراكيب الكلام

ياسر اسكيف

2006 / 6 / 4
الادب والفن


أي مطر ٍ ذاك الذي قد تتملكنا الرغبة في إذلاله ! ؟ وقد تآلفنا مع الحياة على أن المطر مصدر مسرّة ومتعة وخير ! ؟
من هذا المطر الشخصي الذي ( يطفيء النجوم بحذائه )سألج إلى نص ( كراكيب الكلام ) الذي هو في الحقيقة كلام الشاعرة ( سوزان عليوان ) بعد أن تخلص من كراكيبه , وبات واثق الخطوة في تعثره الذي يوقظ الاحتمالات بما يثيره من القلق في العودة إلى بدء يختلف باختلاف المركز الذي تحتله الذات مدفوعة برغبتها في التكيّف مع الموقع الأقل إيلاما , ً وينكأ الدلالات بحرارة البوح الذي ينتحل , دون قصد , مرارة ما يريد الصراخ إيصاله .

بلوحتها ( شارع المطر ) , التي توضعت في الصفحة الأولى للغلاف , تقود سوزان قارئها إلى مصيدة يتعرّف فيها على كائن يقود قطيع آلامه , التي أنبتها المطر , في برار ٍ لا تنتهي من الوحل . في الوقت الذي يخالج القاريء الظن بأنه على بوابة مدينة ألعاب ٍ , أو أنه على وعد بأن يكتشف بعضا ً من الكون بمنظار الطفولة , في مساحة شعرية تنتجها حساسية الطفولة بمجاراة غير متكافئة مع بلاغة الحياة ورطانتها .
ولن يسوء القاريء , كما أظن , مبدأ المصيدة , بقدر ما سيسوؤه الوحل والحشرجة .
ومن سيعود إلى الغلاف ثانية , بعد الانتهاء من القراءة , سينسى أمر المصيدة تماما ً وسوف ينتبه فقط إلى صندوقين أسودين , أحدهما ضمّ ( كراكيب الكلام ) الذاهبة إلى غيبها , والآخر ضمّ ( سوزان عليوان ) ساكنة نعشا ً صغيرا يتخذ من الحيرة وضعية بين السقوط , كمجاراة للجاذبية , والارتفاع , كمعاندة وتحدّ لها .

المطر والجوّ الماطر , مفردة وحالة طاغيتان . وفي تقابل معهما , الكتابة والوحل . بل يسعني القول . الكتابة بالوحل . حيث ما من أفعال معتادة للمطر, كما تكرّست قاموسيا ً ووجدانيا ً . وما من ردود أفعال أو نتائج تساير ذلك الاعتياد .
يأتي المطر في ( كراكيب الكلام ) كمصدر للأوجاع والمرارة وممارسة الكيد , إذ يحضر متخلصا ً من كلّ محمولاته الدلالية , محتفظاً ببعده الفيزيائي , وبما يثيره هذا البعد في الذات من ردّ فعل لحظي يشكّل صِفر التجربة كآن وليس كعلامة رياضية .

بالسؤال , وإجابته الكامنة فيه , ( أي مطر ٍ هذا الذي / يطفيء النجوم بحذائه . ؟ ص5 ) , تبدأ ( سوزان عليوان ) , غير أنها , وكأنما تعاند طغيان المطر كفعل وحيد في مساحة وجودها , تتمسك بالحكاية , التي لا تنشد الإخبار بقدر ما تتشكل منه , كمعادل آخر للوجود , يصون يقظتها , ويضمن حريتها . وبهذا تأتي الكتابة كتأجيل للمحو , إن لم تكن كإيقاف له . ويدفعنا إلى قراءة كهذه , حضور اليد بجرأتها المفاجئة ( وأنت يا يدي / من أين أتيت بكل هذه الجرأة . ؟ ص 5 ) , جرأتها على القيام بما لم يتكشف بعد , والذي أسمح لنفسي بالادعاء أنه الكتابة , الكتابة التي ستحاول إضاءة النجوم ثانية .

ما من افتراض في ( كراكيب الكلام ) . هي حشرجات كائن في الحيز اللامرئي بين الولادة والموت . كائن يعيش موته وولادته فوق ( بياض العدم ) متخبطا ً في وحول طمسه كما تكوّنه . والكائن هنا هو الكتابة ذاتها , النص ذاته , حيث ما من صفر للتجربة التي تبدأ وتنتهي متخذة أصفارا ًعديدة تخص الذات , ومعززة قيمة ما يمكن تسميته الصفر الشعري على حساب الصفر التأويلي , أو الصفر المفترض , والذي يخص المتلقي بالدرجة الأولى .
وهنا يمكنني البدء من حيث انتهت سوزان . ذلك أن الآن هو صفر التجربة فيما أتلقى , والأزمان السابقة أو اللاحقة تتبدى كضرورات وليس كمحصلات تلقائية لعدم انزياح الصفر الشعري عن مركزيته كمرجِع وبالتالي إسناده للشعور الحي بالزمن .
( " الوداع " / يا لوقعها / حين تذرف هكذا / فاصلة بين فراغين / في سياق المطر . ص 44 )
المطر الذي لا شيء سواه , كإطار للتجربة , وكمصدر وحيد لآليات جريانها :
( لا شيء / لاشيء سوى المطر / على زجاج النافذة " وجهي الآخر " / على الشارع البائس مثل حب قديم تدوسه الأقدام ... / . ص 6 )
مطر يدفعنا أحياناً للظن بأنه الحياة . الحياة ذاتها . كتراكم لفواصل من العدم . غير أن حضور الثلاثين , دون غيره من الأرقام , يبقي المطر في معناه الفيزيائي . ذلك أن الثلاثين , التي تتموضع كسور ٍ أحجاره قطع من ذات الشاعرة وأشيائها الحميمة , ما هي إلا السنين التي عاشتها الشاعرة :
( سور الثلاثين / بأحجاره التي / من طيني ومن دموعي . ص 38 )
وفي معاينة تلك الأحجار ومحاولة إحصائها تتجمع لدينا حصيلة من الكائنات والأشياء التي تشكل باجتماعها معنى الكائن وسورة وجوده :
الحجرات – المقعد الوحيد – تلك الحقيبة - ذلك المعطف – الأب الغائب – الطفولة السوداء – الأم – شجرة العائلة – غابة الأصدقاء- قصص العشق - ....
غير أن ذلك السور / العمر لم يؤطِر بقيامه سوى العزلة والدموع :
( سور بقامة العتمة / تحفّه اثر عبورها الغيوم / ليعلو بعزلته بلا أشجار / بدموعي المعلقة لوحات مائية تسيل بألوانها على حجارته . ص 40 )
وللمطر أفعال تتفتح بموازاتها الذاكرة ويلتمع الشوق كنصل يهوي :
( كلما اشتدّ المطر / تذكرتها / تلك الأيام الدافئة كالجلد / .. / أيامنا التي / كلما تذكرتها / اشتدّ المطر . ص 36 )
وكأنما هنالك نوع من الكيدية المتبادلة , فالمطر الذي لا ينتج بسقوطه سوى الوحل , بكل ما لهذه الكلمة من معان ودلالات مرذولة ( مع أنه ذات المطر الذي يسقط في تلك اللحظة ليصنع جمالا ً في موقع آخر بالنسبة إلى كائن آخر ) تقاومه الذات الواقعة في التجربة باستنفار ذاكرتها التي يحاول محوها أيضا ً باشتداده مع استحضارها , وهكذا ..
ويحضر الآخرون بمجارة للمطر , أو كمرآة له , آلة للفتك ِ , وآية في الإلغاء :
( الآخرون دائما ً / بأحذيتهم الموحلة على صفحة روحي . / .. / الآخرون : / الكتابة السوداء على جلدي وجدراني / كابوس المطر المتكرّر . ص24 )
ثمّ يتنامى الشعور بالانسحاق تحت وقع المطر إلى درجة الإذابة أو الإسالة :
( خطواتي خيط أسى / كأنما الأمطار تسيل بي حين أسير / كأنها دمع حذائي . ص 34 )
وصولا ً إلى الفاجعة :
( حياتي – تحت المطر – حائط / هل من عقاب / أقسى من الزمن . ص 39 )

أخيرا ً . لا بدّ لي من القول . أنني كنت , وما أزال , متعئرا ً في قراءة النصوص الطويلة وإعادة إنتاجها , لكثرة ما تنتصب أمامي من إشارات مرور تعيدني , في أحيان كثيرة , إلى النقطة التي انطلقت منها . ويرجع هذا برأي إلى السردية المتشظية في صوغ التجربة وليس في التجربة ذاتها . وتجنح هذه النصوص , مرغمة , على الاستنجاد بالصوَري المبتكر كلبوس يحاول إحياء التجربة في السرد وإعادة اللحمة إلى السردية . قد ينجح هذا الأمر أحيانا ً , كما في النص الذي بين أيدينا , وقد لا ينجح أبدا ً . ويعود السبب في ذلك , كما أرى على الأقل , إلى البراعة في تشكيل المحسوس والملموس , وفي توزيع المتبقي من جذوة التجربة بطريقة تجعل عدوَانا واحتراقنا أمرا ً ممكنا ً .
ويمكنني القول أيضا ً , فيما يخصّ هذه الأنواع من النصوص , التي تأخذ فيها التجربة مساحة زمنية كبيرة , بأن تكرارا ً , يثقل ولا يغني , سيشوبها بكل تأكيد , على أنه انتقال بين زوايا المعاينة والاحاطة , غير أنها قد تكون ذات الزوايا المطلة على ذات المشهد . كما يلحظ القاريء ندرة خلوّ تلك النصوص من الوقوع في شرك استخدام أدوات المهنة التي حفرها وصنّعها الغير , وبهذا تتشابه معه , ومع غيرها من مستخدمي ذات الأدوات , حيث تبقى رائحة المعلّم عابقة في بعض مناطق النص . وبالنسبة لنص سوزان حضرت أثناء قراءته ثلاث صوَر لثلاثة شعراء :
تقول سوزان : الخيبة الأعمق من الغفران .
يقول بسام حجار : الألم أن يكون الدمع أعمق من محجر العين .
سوزان : وضحكاتنا أعلى من الأسوار .
وديع سعادة : نتسلق ضحكاتنا لأن صراخنا شاهق جدا ً .
سوزان ؛ كلما اشتد المطر تذكرتها ..... وكلما تذكرتها اشتد المصر .
هنادي زرقة : كلما أحبّت رجلا ً تعثرت . وكلما تعثرت أحبت ..
أورد الصوَر دون تعليق . وأقول لسوزان : ها قليلنا . شكرا ً على كثيرك ِ .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل