الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما فعلته الحرب بالنساء في رواية -ظلال الأزرق الخائف- لريما إبراهيم حمود

سارة كرم
كاتبة وباحثة

(Sara Karam)

2020 / 2 / 18
الادب والفن


في رواية "ظلال الأزرق الخائف" لريما إبراهيم حمود، ثمة مأساة إنسانية يعيشها أبطال الرواية بسبب الحرب، ربما من عادة روايات الحروب أن ترصد أجواءها ومعاناة أبطالها، وربما تفاصيل حياتهم اليومية وسطها ومحاولاتهم المضنية للعيش والنجاة هذا الرصد للتفاصيل اليومية تتميز به "ظلال الأزرق الخائف" أيضا، لكن اللافت هنا في الرواية أن المؤلفة لم تحدد أو تسم المكان الذي تدور به هذه الحرب، ولم تترك أي إشارات مباشرة تدل عليه ولا على جنسية شخصياته، فباستثناء أن المكان شرق أوسطي أو عربي وهذا يستشف ضمنيا من العادات والأفكار التي تعتنقها بعض شخصياته، فإن المكان غير محدد بشكل أكبر من هذه العمومية.

مما يفتح الباب لمحاولات التخمين والتأويل من القارئ أثناء القراءة، هذا على مستوى القراءة. أما على المستوى الفني، فغياب هذا التحديد، وكون المكان بات عاما وغامضا، فهو يعد بمثابة جمالية فنية مقصودة. واختيار مقصود من المؤلفة، وكأنه بذلك يشير إلى أن الحرب هي الحرب في كل مكان، مؤسفة ومروعة وفاجعة إنسانيا. كما أن عدم تحديد هوية المكان ينأى بنا عن كل الإيحاءات السياسية، والأيديولوجيات، والصراعات المنبثقة عن الحروب، ليلفت النظر فقط إلى الجانب الإنساني والآثار المدمرة للحروب على المجتمعات، وكأن في هذا صرخة تعلن أن "المهم هو الإنسان"، الإنسان هو المعادلة الأهم من بين كل المعادلات الأخرى للسياسة والأفكار والأيديولوجيات.

تقوم الرواية على تقنية تعدد الأصوات، وهو اختيار فني موفق لائق برواية تتحدث عن الحرب، فنحن هنا لا نرى الحرب ونعرفها من خلال وجهة نظر فرد واحد يعيشها، بل نراها ونعرفها من زوايا إنسانية مختلفة ومتعددة، مع استخدام ضمير المتكلم الذي يغدو هنا متعددا، بكل ما يتصف به من مسحة حميمية وإيحاء بالصدق والثقة والتعاطف في العلاقة التي يعقدها مع القارئ. ومن الجماليات الفنية اللافتة في الرواية أن أحد هذه الأصوات التي تضطلع بدور "الراوي" هي المكان، فالمكان هنا يتم تشخيصه ليروي لنا بصوته الخاص - كما لو كان شخصا - قصته الخاصة وقصة الناس الذين عاشوا فيه، من خلال صوت "القبو" الذي تلجأ إليه شخصيات الرواية للاختباء والاحتماء من بطش الحرب، هذا القبو تصبح له قصة حياة كاملة وبداية ونهاية في الرواية مثله مثل بقية الشخصيات، ومن هنا فإن المكان يصبح بطلا رئيسيا من أبطال الرواية، وليس مجرد فضاء بصري وجغرافي لتأطير الأحداث.
من أجواء الرواية التي جاءت على لسان القبو: " في البداية كنت أنا، حفرت الجرافة الأرض للمرة الأولى في هذه الحارة التي بدأت حديثا بالنمو، نزل عمال البناء إلى القاع، شبكوا أسياخ الحديد بعضها في بعض، صبوا الإسمنت، ارتفعت جدراني خلال شهرين، حجبني سقف عن الشمس، حملت على ظهري طابقين بأربع شقق وبوابة تطلّ على الشارع مباشرة بلا سور.
صرت آخر مكان يفكر أحد السكان في النزول إليه، حتى قرر أبو حسن أن يخزن فيّ بضاعته، ويملأ أرضيتي بمصائد الفئران، وزواياي برذاذ قاتل للصراصير. وهكذا بقيت لعشر سنوات محشوا بالصناديق، وجثث الفئران المتطفلة على مؤونة دكان أبي حسن. بدأت الحرب بعيدا عن هذه المدينة، كثرت زيارات أبي حسن وابنه حسن الذي كان يحني رأسه ليتجاوز الباب المؤدي إلي، أخرجوا كل البضاعة يوما بعد يوم، صرت أوسع، كنست أم حسن أرضيتي ثم أغرقتها بالماء والصابون، بعد أن انتهت تأملتني راضية: قد نحتاج إليك قريبا."

وثمة جمالية فنية أخرى تخلقها الرواية، من خلال رصدها لحالتين مختلفتين، يخلق اختلافهما مفارقة مميزة تظهر بين الحين والآخر، بين وصف أيام القصف وانقطاع الكهرباء، ولحظات الهدوء وعودة الحياة بين الحين والآخر. بين ظلام القبو وجوه الخانق، والخروج إلى الضوء ونسائم النهار، بين الحياة تحت الأرض ودفء البيوت، بين الغرق في الطارئ والعودة للطبيعي أو ما يشبهه، ومحاولة التمسك بالباقي منه.

ثمة خيط نسوي في الرواية، يمكن التقاطه من بين ثنايا المضمون، كما يمكن عنونته بعنوان ك: "ما فعلته الحرب بالنساء"، النساء الذين هم في الأصل ربما عانوا قبل الحرب من ظلم ما، ضاعفت الحرب من الظلم الواقع عليهن، وأضافت لمعاناتهن السابقة معاناة إضافية. يمكن تلمس هذا من خلال قصص النسوة اللواتي تروى الرواية من خلال أصواتهن بالتناوب مع صوت القبو (نور، علياء، فاطمة) وهناك أيضا شخصية مريم، إلا أنها لا تروي قصتها بصوتها. وهن جميعا ينتمين إلى مراحل عمرية مختلفة، وأوضاع اجتماعية متنوعة، فمنهن العزباء، والمتزوجة، والمراهقة، ولكل منهن قصتها ومعاناتها الخاصة في مجتمع شرقي، تصبح المرأة فيه في مختلف حالاتها إحدى الأهداف المحتملة والممكنة للمعاناة، كأن تكون عزباء تعيش بمفردها، أو لا تنجب، أو صغيرة يزج بها في أتون زواج مبكر، أو مطلقة، أو أرملة.. إلخ.
ففاطمة امرأة تجاوزت الأربعين من عمرها، وقد أرهقتها مشكلة عدم الإنجاب والضغوطات الاجتماعية التي تتعرض لها بسبب ذلك، فامرأة لا تنجب هي في عرف مجتمعاتنا الشرقية امرأة بلا قيمة، وعلياء امرأة عزباء في الثلاثينيات تعيش بمفردها لظروف خاصة، هي أيضا لم تسلم من نظرة المجتمع لها، ونور المراهقة الصغيرة التي تتوق للعودة لمدرستها بعد أن توقفت عن الذهاب إليها بسبب الحرب، وهي تعيش في عالم من ذكرياتها الخاصة عن المدرسة والبيت وحياة أسرتها كما كانت في الماضي قبل أن تندلع الحرب وتنقلب حياتها بسبب ذلك، ومريم ابنة الثامنة عشرة، الفتاة اليتيمة التي تضطر للزواج بعد وفاة والدتها الفقيرة، وتنجب طفلا، ثم تفجعها الحرب بعد ذلك بالمصائب، كل هذه نماذج نسائية مقهورة، ومغلوبة على أمرها، كانت كذلك قبل الحرب، لكن الحرب أضافت إلى كل واحدة منها قائمة مصائب وأوجاع إضافية، تناولتها الرواية. أو أفسدت حياتها التي كانت ستسير على نحو آخر تماما، لولا اندلاع الحرب.
ويحسب للمؤلفة أن هذا الخيط النسوي، ابتعد عن المباشرة والتقليدية الشائعة في الطروحات الروائية النسوية، فهو يتغلغل بخفة في مضمون الرواية دون الإشارة المباشرة إليه، ودون أي لمحات تنظيرية أو تعليقات عليه، مما يشير إلى براعة النسج الفني، الذي ينأى عن الأيديولوجيا المباشرة في الأدب والصيغ التعليمية.
إلا أن الرواية ليست نسوية بالكامل، فهي لا تتحدث عن معاناة النساء فقط، بل عن معاناة جماعية عاشها أبطالها من رجال ونساء. وهي بالإضافة لمقاربتها لموضوع الحرب، فهي تقارب أيضا قضايا اجتماعية معقدة من خلال القصص الخلفية (الماضي) للشخصيات، والذي يمتد ويعود إلى فترات زمنية سبقت اشتعال الحرب. فالحب، وعدم الإنجاب، والزواج المبكر، والوحدة، والعنف ضد المرأة، واضطراب الشخصية أو جنونها كلها موضوعات قاربتها الرواية، من خلال قصص أبطالها. الذين تظهر شخصياتهم واضحة ومفهومة للقارئ، باستثناء شخصية "حسن" التي تتشح بالغموض والاضطراب وتفتح الباب للتأويلات والإيحاءات الرمزية.

أما بالنسبة إلى عنوان الرواية "ظلال الأزرق الخائف" وهو الجملة الأولى التي تقع عليها عين قارئ الرواية، والعتبة الأولى التي تجره إليها، فيتسم بدلالاته وإيحاءاته الرمزية، وهو بذلك يخرج من قائمة العناوين المباشرة التي يمكن أن تعكس نوع مضمونها مباشرة. "ظلال الأزرق الخائف" عنوان لافت، لكن لا إشارة هنا إلى الحرب، أو النساء وهي الموضوعات الأبرز في الرواية. وعوضا عن ذلك هناك حالة رمزية وبلاغية يصنعها العنوان، فالأزرق لون، له ظلال، وهو هنا يتحول -باستخدام تعبير بلاغي - إلى شخص خائف، لينطرح السؤال: مم يخاف الأزرق؟ وهل يمكن أن تخاف الألوان؟ فما المقصود بالأزرق أصلا؟ الأزرق أحد الألوان الباردة في تصنيف الألوان وهو بذلك يمكن أن يحيلنا إلى البرودة، كما أنه لون يتصف بالهدوء، والعمق، وهو لون السماء والبحر في درجات مختلفة، وحالات مختلفة أيضا، قد تتسم بالصفاء كما في السماء الخالية من الغيوم، أو البحر في هدوئه وصخبه.
هذه الأسئلة، يعثر القارئ على ما يشبه الإجابات عنها مع مواصلته للقراءة، ليكتشف أن العنوان يتماس مع بعض الصفات الخاصة لبعض الشخصيات في الرواية، كما يتماس مع أحد أحداثها المهمة. وهو أمر تتميز به الرواية، ليس فقط بالنسبة للعنوان، بل في مجمل أحداثها وشخصياتها. فهي لا تعطي معلومات كاملة أو جزءا يكشف عن الباقي المتوقع عن شخصياتها وأحداثها، بل تكشف عنها رويدا رويدا، ما يجعل القارئ في حالة من الترقب والتشويق المستمر.
صدرت الرواية حديثا عن دار "الآن ناشرون وموزعون" بالأردن، في 188 صفحة من القطع المتوسط. فتمتاز بحجمها القصير نسبيا، على الرغم من كونها مشحونة بالتفاصيل، وهي بذلك تحقق معادلة صعبة بين تكثيف الحجم واستيفاء جوانب المعنى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي