الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-المُثقف والسُلطة-

هاشم عبدالله الزبن
كاتب وباحث

(Hashem Abdallah Alzben)

2020 / 2 / 15
الادب والفن


ما بين الوطن والمنفى، هوّة سحيقة، وادٍ عميق يبتلع الكثيرين، وفي ظلام الهوّة/الوادي تبدو الحياة مُستحيلة، فهذا المكان ما هو إلا مقبرة تحتوي الأحياء الذين حُكم عليهم بالفناء، بالعيش في ظِلال الغربة، واللامكان.

"إدوارد سعيد" حصل على شهادة الدكتوراة في الأدب الإنجليزي، وعمل أستاذًا في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك، وحاضر في جامعتيّ هارفرد وستانفورد... قبل ذلك إدوارد سعيد "فلسطينيّ منفيّ" من مواليد عام 1935 حيّ الطالبية/مدينة القدس، وفي الولايات المتحدة الأمريكية التي جاء إليها "مَنفيًا" عاش نضالهُ الوطنيّ والفكريّ، وواجه النفيّ وحياة الإغتراب بروح الهواية التي ذكرها في كتابه "المُثقف والسلطة"، والهواية التي تتجاوز الإحتراف وحدوده الضيّقة، تحتوي "قوّة" المُثقف ليقوم بدوره الإنسانيّ دون أن تُهدر طاقته وتتبدد إمكانياته.

قبل شهر لم أكن أعرف إدوارد سعيد، كما كنت لا أعرف مالك بن نبي وعبد الوهاب المسيري وعبد الرحمن الكواكبي وغالب هلسا وغيرهم من الأعلام الفكرية العربية التي غابت وغُيّبت عن وعينا الحاضر، ومؤلفاتهم باتت من الإرشيف المَنسيّ، لأسباب كثيرة، ولذلك ربما نفتقد الرؤية الواضحة لحاضرنا ومشكلاته التي حاولت تحليلها وعلاجها مُؤلفات أولئك الراحلين.

جائني كتاب "المُثقف والسلطة" كهدية عيد ميلادي الرابع والعشرين، ولا أُبالغ بإمتناني وشغفي بهذه الهدية القيّمة، التي أثارت تساؤلاتي حول كمية الكتب المجهولة والنادرة التي قد لا أعرفها حتى ولو بلغت التسعين من عمري...
الكتاب صدرت طبعته الأولى في عام 1994، لا يتجاوز المئتي صفحة، ويحتوي ستة فصول وهي عبارة عن محاضرات قدّمها سعيد من خلال الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، تتناول "المُثقف" كمفهوم وكإنسان وكمُناضل عالمي لا تحدّه حدود السلطة سواء السياسية أو الدينية أو الإيدولوجية أو الإجتماعية أو الثقافية، تبدأ فصول الكتاب بصور تمثيل المُثقف، وإستبعاد الأمم والتقاليد، ومنفى المُثقفين: المُغتربون والهامشيون، والمُثقف المُحترف والهاوي، وقول الحقيقة للسلطة، وأخيرًا: أرباب دائبة الخُذلان.

ترجم الكتاب عن اللغة الإنجليزية الدكتور المصري مُحمد عناني، والكتاب يطرح أسئلة عن علاقة المُثقف بالسُلطة على إختلافها، ويبدأ الإجابة بمحاولة إيجاد تعريف مُحدد للمُثقف؛ هل هو صاحب المهنة الفكرية المُحترف؟ أم هو المُفكر الهاوي المُستقل؟
هل المُثقف مُتخصص في علم من العلوم يُقدّم خدماته الفكرية مُقابل أجر مُعيّن-كالأستاذ المدرسي أو الجامعي والمهندس والطبيب.. الخ؟ أم هو مُفكر حُر لا ينتمي لمؤسسة مُعينة، ويطرح أفكاره على الجمهور والسُلطة حتى ولو كانت هذه الأفكار تُعارض الأفكار والمُعتقدات السائدة؟
وهل المثقف "عملي" يدعو إلى التغيير ويعمل في سبيل ذلك، أم "نظري" يعيش في برج عاجي ويقول ما يقوله بغض النظر عن تحقيق أقواله في الواقع العملي؟

هو كتاب أسئلة في المقام الأول، وتحليل ودراسة إرتباطات علائقية/إجتماعية في المقام الثاني، وأسئلة الكتاب مفتوحة الإجابة، والإجابة عنها ليست مُستحيلة بقدر ما هي أسئلة تبلورت من أطروحات فكرية متنوعة وعالمية، تتطلب إتساع الأفق والتحرر من "الأنا" و"النحن"،
فالثقافة ليست مرتبة عُليا ولا هي شيء مُجرد ومحدود، هي روح إجتماعية تُحدد مدى قوة مجتمع ما، وإمكانية أن يكون هذا المجتمع حيًا بطاقاته ووعيه، أو مشلولًا بالقمع والتزييف والإستبداد، أو مَيتًا بالفراغ الثقافي المُستعد للإمتلاء من أي شيء يملك قوة ملئ ذلك الفراغ،

والمُثقف هُنا، لابدّ له "دور" يتأثر بواقع مُجتمعه، فقد يُصبح أداةً للسُلطة أو الثقافة الإجتماعية، أو سجينًا لتلك المُؤثرات. وتأثيره لا يكون إلا تأييدًا لما هو قائم أو سكوتًا إزاء الخلل الواضح أو المُستتر، وبطبيعة الحال المُثقف ليس بطلًا خارقًا ولا عالمًا تجريبيًا، إنما هو إنسان إضطلع بمهمة تتسم بالمواجهة المُستمرة مع الأحداث والنَقد الجريء للمظاهر المُثيرة، فقد يقع في المحذور، عندما ينساق في تيار بعينه، يُعميه عن رؤية الأخطاء والفظائع،
فيُمكن للمُثقف أن يُناصر حكومة بلاده القمعية مثلًا، وينتقد حكومة بلد آخر يتهمها بالقمع والإستبداد، كمُثقف أمريكي يُبرر الغزو الأمريكي للعراق بدعوى الإنتصار لحقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب، ويهاجم الإتحاد السوفييتي الذي يتدخل في شؤون أفغانستان، يلعن الغزو العراقي للكويت، ويغض الطرف عن الغزو الأمريكي لبنما، بل ويُسميه "القضية العادلة"، هذه الإزدواجية في المعايير، يُمكن للمُثقف النجاة منها، عندما يَعي تأثير السُلطة عليه، وبأنها-السُلطة أيًا كانت، ولأجل شرعيتها وإستمرارها، تعمل على قولبة الرأي العام والثقافة العامة لمصلحتها، وبالتالي يُصبح المواطن مُسيّر/تابع ثقافيًا، يتشكل وعيه بحسب سياسة السُلطة الحاكمة أو المُسيطرة على الوضع الراهن.

سعيد يصف المُثقف بـ"اللامُنتمي"، بالذي يعيش خارج المكان، فهو المُتحرر من كل أشكال التبعية والوظيفة المُحددة، والذي لا يحكم-أيَّ حُكم بتأثير العاطفة والميولات الشخصية، إنما يتناول الأمور وفق مبادئ فكرية/عقلية واضحة ومُجَردة، مرنة وغير خاضعة لإعتبارات شخصية ضيّقة،
وهذا لا يعني وقوف المُثقف موقف التردد والحيرة والإرتياب بإزاء المواقف والأحداث المُستجدة، بل يصير تِبعًا لذلك موضوعيًا في أراءه وطرحه بالمعنى الحقيقي لكلمة موضوعية، التي قد تتلون بألوان زائفة وتُصبح مُبررًا لعجز المُثقف وجُبنه وكسله الذهني، وقد تكتسب الموضوعية بُعدًا آخر، يُصطلح عليه بالصحة السياسية بشكلها المُتطرف، واللياقة الإجتماعية المُتطرفة أيضًا، المُؤدية لمُثقف/مواطن سلبيّ، ساكت مُقيدًا بالحيرة واللامُبالاة.

إشكالية المُثقف تتمحور حول كينونته وصيرورته الشخصية والإجتماعية.
مَن هو المُثقف؟ هذا هو السؤال المُلّح والمُهم قبل كل شيء...
فالمُثقف كمفهوم إجتماعي يختزل شخصية إنسان ما، تعرَّض لتشكيلات كثيرة ومتنوعة، تسخر من صاحب هذا اللقب، أو تضعه في مكان مُرتفع، يستحيل الوصول إليه،
وفي مقدمة الكتاب يُحدد سعيد مُهمة المُثقف، كأنهُ يُعرّفه:"ومن المهام المنوطة بالمُثقف أو المُفكر أن يحاول تحطيم قوالب الأنماط الثابتة والتعميمات الإختزالية التي تفرض قيودًا شديدة على الفكر الإنساني وعلى التواصل ما بين البشر." وأعتقد بأن المُثقف ما هو إلا إنسان تُحرّكه الرغبة الدائمة بالمعرفة، ويرى الحياة من حوله بعيون تتفحص التفاصيل وتقرأ الحياة اليومية، ليبقى ذهنه مُتوقدًا، يقظًا، يبحث عن المعاني والإجابات ويُعيد صياغة الأسئلة المألوفة ويصنع أسئلتهُ الخاصة، ويطرحها بجرأة، وعلينا أن نُدرك بأن المُثقف ليس له شكل مُحدد أو طابع خاص، فهو مُثقف إنعكاسًا لجوهره الداخلي وإرادته الذاتية لإدراك الحياة والإنغماس فيها، والإشتباك معها، والمُثقف لا يرضى بالواقع الرديء ويستسلم للأقدار، ولا يقبل بأنصاف الحلول، وكذلك لا يسعى للمثالية وإقامة المدينة الفاضلة.. إنه مواطن فاعل ومسؤول، يعرف بأنه جزء من الوطن، والأقليم والعالم، جزء مُهم، وليس مُجرد كائن حياته تحتكم للصدفة والحظ والإعتباط...

أخيرًا، المُثقف ليس عدوًا أو حليفًا للسُلطة، وليس بالضرورة معزولًا عن مجتمعه وبيئته، ففي حياته "النضالية" الساعية للمعنى والمعرفة، قد يتعرض هذا الإنسان لشتّى أنواع النبذ أو الهَدر أو النَفي أو التهميش... وحسب قوته الذاتية/المعرفية يصمد في وجه التحديات والصعوبات، وكلّما كان الوطن(حكومةً وشعبًا) يحترم المُثقفين ويُقدّر جهودهم، كلّما كان هذا الوطن كريمًا وعزيزًا، والعكس الصحيح، فلا مكان للمُثقف الهاوي في وطن مسلوب الإرادة، يُعاني فيه الجميع من الغُبن والظلم وأشياء أخرى...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل


.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ




.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع