الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأخطاء فى زمن المحتالين

ماريو أنور

2006 / 6 / 4
الادب والفن


- ها هو بيكويك , راكع امام قطعة حجر تبرز من الأرض قرب احد البيوت . لقد صرخ إلهى !! ثم نظف بمنديله الحجر من الغبار فتبينت بعض الأحرف على صفحته , وعلم بحدسه السريع الدقيق انه إزاء قطعة اثرية من العصر القديم . فاشترا الحجر من صاحب البيت بعشرة قروش , وحملها كذخيرة ثمينة إلى المطعم الذى كان اصدقائه الثلاثة ينتظرونه فيه . ووضع الحجر على الطاولة فراحت الأنظار تنصب عليه و هى متقدة فرحاً . ثم نقل الحجر بإجلال الى مركز النادى حيث عقدت جمعية عامة خارقة العادة ألقى فيها عدة خطباء كلمات مسهبة بسطوا فيها أبرع التكهنات وادقها حول هذه الكنابة .
أما , السيد الرئيس , بصفته علامة مشهوراً , فقد صنف كتاباً صغيراً عرض فيه سبعة و عشرين تفسيراً ممكناً لهذه الكتابة !! وقد حاز جهده المرموق على مكافأة مناسبة إذ ان ست عشرة مؤسسة علمية و وطنية و أجنبية عينته فيها عضواً شرفاً بفضل هذا الاكتشاف !!!!! .
لكن......... هل نقول الحسد أم السبيل إلى الحقيقة !!؟ حمل شريكه بلوتن على منافسته , فقد ذهب بلوتن إلى المكان الذى اكتشف فيه الحجر و سأل الرجل الذى باع الحجر وعاد إلى النادى و قال (( الحجر بالواقع قديم جداً , ولكن الكتابة حديثة , إذ ان الرجل الذى باع الحجر قد حفرها بنفسه وكان يريد ان يكتب هذا فقط " أسمى بيل ستامب " و يستطيع كل واحد أن يتحقق من ذلك )) ...لكن ردة فعل النادى جاءت سريعة , فقد طردوا بلوتن بتهمة الاغتياب والعجب بالذات , واقترعوا على شراء نظارات ذهبية للرئيس بيكويك استحساناً و تقديراً !!! وطلبوا من الجمعيات الست عشرة ان توجه استنكاراً إلى بلوتن .
لكن , والحق يقال , لم يكن هناك قطعة أثرية بل حجر تافه عادى . لقد ارتكب , الرئيس خطاً فادحاً , وجعل , ولو عن حسن نية , اصدقائه الثلاثة و النادى بأكمله و الجمعيات الست عشرة يرتكبون الخطأ عينه.
إن هذا الأمر يحدث , وخصوصاً لانه يحدث , وحتى يندر حدوثه , كتب الفيلسوف توما الأكوينى , كتاباً صغيراً فى موضوع الأخطاء , وعنوانه (( حول الأخطاء )) , اسمح لى ان اتامل واياك فى بعض نقاطه .
قد يسمى توما الخطأ الذى وقعت فيه , أيها الرئيس " بيكويك "(( استدلالاً زائفاً )) , أى تفكير خاطئاً عن حسن نية . وهذا نجده أيضاً فى ايامنا وخذ مثلاً ما نسمع أحياناً كثيرة عن استدلالات زائفة صادرة عن الذين يحاربون (الإحزاب , القضاة , الشعب , الأرهاب , البدو , القمع , الفقر , اللاستبداد , الفساد , إلخ ....... )) عن حسن النية . ان حبى للحقيقة يجعلنى اتألم , لان كل هؤلاء مغايرين كلياً للصورة التى يقصدونها عنها . لكنى من جهة أخرى اتعزى قليلاً عندما أرى أنهم فى الغالب ليسوا ضد هؤلا بل ضد فكرة معينة مستحوزة عليهم . ان هذه الأخطاءٍ المرتكبة عن حسن نية , و المدعوة استدلالات زائفة , تبدو لنا أنها نتيجة أحكام مسبقة منتشرة بين ذو السلطات بفعل دعاية ترتكز على الشعارات الرنانة , كهذه (( استئصال الارهاب )) , (( الحرية للجميع )) , (( الحقيقة أولاً )) , إلخ ..... . أن هذه الافكار تجعل عدداً كبيراً من الحكام المعاصرين معاديين لهؤلاء , ولكن إن سألناهم ماذا يعنون بهذه العبارات لا يستطيعوا أن يجيبوا بوضوح وعندما نبين لهم أن (( الحرية )) لا قيمة لها دون سد أ وألغاء حاجات عديدة وبنوع خاص (( قانون مرحباً للطوارى )) . لكن هذا لا يمنع الدعاية من متابعة سيرها والأحكام المسبقة من ان تتكون و الاخطاء من ان تتجدد . لكن الله لحسن الحظ , لن يدين الناس يوماً إلا بعد أن يزن رؤوسهم . واملى ان يخلصهم على الرغم من افكارهم الخاطئة التى وقعوا فيها بدون ارادتهم .
غير إن حسن النية لا يتوفر للجميع , كما توفر لك أيها الرئيس بيكويك !! .
عندما يرتكبون الخطأ فى براهينهم . ذلك ان هناك اناساً يتعمدون غش للآخرين بكلامهم . ففى هذه الحال , لا نسمى ذلك (( استدلالاً كاذباً )) بل " سفسطة " تتداخلها أهواء بشرية بشعة .
نذكر أولاً روح النقض الذى يتميز به (( رأس البغلة )) فأذا أكدنا شيئاً , نقضوه واذا نفيناه , اكدوه . تدخل فى حوار معهم , فبينما أنت تتكلم , لا يفكر هو إلا بكيفية معارضتك و نقضك واثبات وجوده .
توقفت بغلة على الطريق , واحجمت عن السير حاولوا جذبها من رسنها , ضربوها بالعصا , فلم تتزحزح من مكانها . وكان هناك اناس على طرفى الطريق يريدون المرور وقد نفذ صبرهم . قال احدهم (( دعونى اتدبر الأمر )) , ثم تقدم و أمسك بذنب البغلة وشدها بقسوة إلى الوراء . وإذ شعرت بأنهم يريدونها ان تتراجع , انطلقت كالسهم إلى الامام واخلت الطريق .
هكذا تكونوا أغلب الأحيان , ايها الرئيس بيكويك , فانتم تتصرفون كهذه البغلة , تعملوا ما لا يريده الناس ان تعمله وتمتنعوا عن عمل ما يبتغوه منكم , فاذا تصرفتم عن هذا النحو لا تكون أفكاركم و أقوالكم هادئة مستقرة و مستقيمة .
هل سمعت أيها الرئيس بيكويك , بالمدعو موهس ؟ أنه احد العلماء , مات سنة 1839 أنه مؤلف (( سلم موهس )) الذى يرتب المعادن ترتيباً تصاعدياً فى عشر درجات , من الأقل صلابة إلى الأكثر , من الطلق حتى ينتهى بالماس . كان عليك , أيها الرئيس , أن تلفت نظر موهس إلى ان بعض الرؤوس هى أشد صلابة من الماس . أنهم لا يستسلمون ابداً , يتشبثون برأيهم المنحرف على الرغم من وضوح الحقيقة , (( اعط المتشبث مسماراً , يغرزه بطرقة فى رأسه )) .
هناك رؤوس أخرى شيمتها النقد , بعضهم يدققون فى الأمور الناقلة , يعترضون دائماً , ولا يعجبهم العجب . والبعض الآخر يظنون ان لهم الحق بأن يعلموا الجميع لأنهم قرأوا بعض المجلات أو سافروا أو قاموا ببعض الاختبارات , فيعتبرون ذبابة أنفهم محور العالم .
قال أحدهم : البلدية ؟ أنا اسستها
البرلمان ؟ أنا ادعمه
الله تعالى ؟ أنا اوجدته .
لقد أتضح ان المتشبثين و المغالين فى النقد يميلون كثيراً إلى السفسطة , بينما عدم الاعتداد بالنفس و الميل إلى سماع رأى الآخرين يحملان على قول الحقيقة . كان موشى , علم الجناس الفلورنتينى , يتصف بهذه الصفات الحسنة . فقد سافر كثيراً , وكان إذا سئل عن باريس مثلاً يقول (( باريس ؟ نعم رأيتها . انها مثل فلورنسا , لكنها أكبر قليلاً )) واّذا سئل عن مساوا يقول (( نعم رأيتها , أنها مثل فلورنسا لكنها أصغر منها , اى بدون البنايات )) , فقد كان متواضعاً للغاية , كما ترى وهذا جيد لأنه
بقدر ما يقل كبرياء الإنسان , تعظم مناعته ضد الكذب و الخطأ .
ومما يزعج أيضا أن الكبرياء الجماعية عن الفردية تولد السفسطة خذ الحزب مثلاً أو الطبقة أو البلاد , فالخطر على الفرد ان يعتنق فكرة معينة , لا لأنه تأكد من صحتها بل لآنها فكرة الجماعة , فكرة الحزب .
أن اخطاء القومية و الحزبيات التى ينتمى إليها ملايين الناس , لها المصدر نفسه , أنها ايضا تسبب سفسطات ناتجة عن الانتهازية .
فاننا نرى الناس يسيرون وراء الآخرين بدافع المصلحة أو الكسل و بدون اية مقاومة كالريشة فى مهب الريح أو كالنفايات يجفرها النهر .
وأنت أيها الرئيس بيكويك , قد انجرفت فى تيار تلك الاجتماعات الانتخابية الشهيرة حيث يتصارع المرشحون و الناخبون الزرق و الصفر فى مدينة (( كل و أشرب )) الصغيرة . فقد نزلت من العربة مع اصدقائك , وإذا بجماعة متحمسة من الزرق تحاوطك و تسألك إذا كنت متعاطفاً مع مرشحهم سلانكى :
- يعيش سلانكى !! هتف الزرق
- يعيش سلانكى !! ردد بيكويك كالصدى , رافعاً قبعته
- فليسقط قيزكين !! هتف الزرق
- فليسقط !! ردد السيد بيكويك
حينئذ تعالى هدير شبيه بزمجرة الحيوانات عندما يدعوهم الفيل إلى تناول الطعام .
فهمس أحدهم : من هو سلانكى ؟
أجاب بيكويك : لا أعلم , لكن اسكت , لا تقاطعنى . الأفضل فى بعض الأحيان أن نجارى الجمهور .
فسأل السيد : واذا كان هناك جمهوران ؟
أجاب بيكويك : فى هذه الحال يجب ان نصرخ مع الجمهور الأكبر .
لقد عبرت ايها الرئيس , بهذه العبارة أكثر مما تستطيعه فى مجلد كبير
لكن . للأسف , عندما نصل غلى حد الصراخ مع من يصرخ بقوة اكبر حينئذ تصبح كل الأخطاء ممكنة الحصول . وهذه الخطاء ليست دائماً قابلة للاصلاح بسهولة . انت تعرف ذلك . يكفى لرمى قلادة ثمينة فى بئر ان يوجد مجنون واحد . لكنه قد لا يكفى وجود عشرين عاملاً لاخراجها . انت تعرف ذلك , وأملنا ان يقتنع جميع الناس بهذا الأمر فلا يتصرف أحد تصرف المجانين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب لأحمد السقا يحصد 22.4 مليون جنيه خلال 10 أيام عرض


.. ريم بسيوني: الرواية التاريخية تحررني والصوفية ساهمت بانتشار




.. قبل انطلاق نهائيات اليوروفيجن.. الآلاف يتظاهرون ضد المشاركة


.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن




.. سلمى أبو ضيف قلدت نفسها في التمثيل مع منى الشاذلي .. شوفوا ع