الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث عن عائشة: الفصل الثامن/ 2

دلور ميقري

2020 / 2 / 20
الادب والفن


غبَّ مغادرة السيارة حدودَ المدينة، اعتباراً من عقدة الربوة، اقتحمت أنوفَ ركابها رائحةُ الريف، الحرّيفة والأليفة في آنٍ معاً. دفقٌ من النور، انسكبَ أيضاً خِلَل بلور العربة، ليضيء أفكارَ أولئك الأقارب، الذاهبة في كل اتجاه. عيشو، وكانت تحاول استعادة المرة الأخيرة، التي وجدت فيها نفسها على هذا الطريق، استرعى نظرها أطلالُ دشمة عسكرية، برز منها مدفعٌ مائل إلى جانب ـ كعكاز الرجل العاجز ـ وكان يلمع بلونٍ فضيّ تحت أشعة الشمس. بصرُ شقيقها الكبير، بدَوره، ذهبَ إلى تلك الناحية؛ ولكن مع فكرةٍ سرعان ما نقلها إلى قريبه، قائد السيارة: " يلوحُ أن معركة حصلت على مدخل الشام من جهة وادي بردى، برغم أن العرب والانكليز دخلوا المدينة من جهة حوران؟ "
أجابَ صالح: " ربما. في خلال سيري بالعربة على طريق حوران، رأيتُ أشلاء الكثير من عتاد الجيش التركيّ بالنظر إلى أن جل معاركه جرت هناك "
" لعل الأتراك دمروا هذا الموقع قبيل انسحابهم، لئلا يستفيد منه الآخرون "، عقّبَ موسي. اكتفى قائد السيارة بهز رأسه، وكان يضيق ذرعاً من أحاديث الحرب والسياسة.
لقد عُرف صالح كرجل لا يستطيعُ مقاومة شيئين في الحياة؛ المرأة والخمر. هذا عُزيَ لطبيعته الاجتماعية المنفتحة، فضلاً عن ميله إلى الظهور بشكل أنيق. لكن إلى طبعه الطريف ولسانه العذب، أحيلت مهارته في جذب الجنس اللطيف. كان يُنظر إليه في الحارة كزير نساء، برغم أن مغامراته كانت تتم في أماكن أخرى. مع أنه أشيعَ، في المقابل، عن شدة تعلقه بامرأة من حي الصالحية وأنها أجبرته على عقد قرانهما لدى الشيخ كي تضمن الحياة الآخرة. هذا الموضوع، أقلق بشدة والدته حتى أنها ذكرته مرةً أمام سارة، نافخةً بقنوط: " يقال أنها تكبره كثيراً، والأدهى أن زوجها كان صديقاً مقرباً لأبيه ".

***
كمن يبحث عن برهانٍ لتلك الأقاويل، إذا بقائد السيارة يلحظ وقوفَ امرأة على جانب الطريق، وكانت ممسكة بيد طفلة صغيرة. خففَ السرعة، وما لبثَ أن وقفَ على مقربة منها. لوحَ لها يده عبرَ نافذة السيارة، بينما ركابها أيضاً يشرأبون برؤوسهم إلى ناحيتها. من هيئتها، كان واضحاً أنها امرأة نصرانية. اقتربت من ناحية السائق في ثقة، وأعلمته أنها تبغي الذهاب إلى الزبداني. ثم استدركت، فسألته عن تكلفة السفر. رد بنبرة منغّمة بالإغراء: " لن أكلفك شيئاً، لأن اليوم عطلتي ". ثم أردفَ، موضحاً أمام نظرات المرأة الحذرة: " هؤلاء أقاربي، وهم في طريقهم إلى الزبداني في زيارة عائلية ". أوسعت لها النسوة مكاناً في المقعد الخلفيّ، وما أسرعَ أن افتتحنَ حديثاً معها.
" يُشاع أن هواء بر الشام ما زال مسموماً بوباء الريح الأسود، أهذا حقّ؟ "، اقتحم سؤالُ سلطانة حديثَ النسوة وكانت تجلسُ وراء السائق مباشرةً. من الجهة المقابلة، الملتصقة أيضاً بباب السيارة، جاءها جوابُ المرأة الغريبة: " هواء الجبل نقيّ، لكن ثمة وباء لا يقل سوءاً ابتلينا به في الفترة الأخيرة: إنه قاطع طريق، يُدعى حمو جمّو "
" أهوَ من أهالي المنطقة؟ "، استفهمت عيشو. مررت الغريبة يدها على رأس الطفلة، المستلقية في حضنها، قبل أن ترد بالقول: " لا أحد يعرف شيئاً عنه، سوى أنه يقود عصابة من جماعته الأكراد المتوحشين! "
" الأكراد ليسوا متوحشين، لمجرد أن ثلة منهم امتهنت قطعَ الطريق "، تدخلت سارة في النقاش. ثم تابعت، فذكرت لمواطنتها أنها أيضاً من الزبداني متزوجة بزعيم الحي الكرديّ منذ قرابة الثلاثين عاماً. صالح، وكان يتابع الحديثَ، لحظ عبرَ المرآة الصغيرة أن علامات الحذر استفاقت مجدداً على سحنة المرأة الغريبة. عض على شفتيه أسفاً، وراحَ يفكّر بطريقة مناسبة لترميم الوضع. إنه كان يأملُ بترك الأقارب أمام منزل السيدة أديبة، ومن ثم في خلال متابعة الطريق تجاذبَ الحديث بحرية مع الراكبة الغريبة.
زفرَ أخيراً كلمته، بينما كان يحدق بالمرأة من خلال المرآة: " لعلمك يا سيدتي، أن عصابة مماثلة روعت الحي الكرديّ طوال فترة الحرب، وأفرادها كانوا من ساكنيه. الأشرار موجودون في جميع الملل، وقد فاضوا في زمن الحرب بسبب المجاعة العامة "
" صدقت، وإنني قصدتُ بالمتوحشين أفرادَ عصابة حمو جمّو، تحديداً "، ردت المرأة بنبرة غلبَ عليها الحَرَج. هز صالح رأسه راضياً، وما عتمَ أن تبسمَ للمرأة لما رمقته بنظرة سريعة لكنها أقل قلقاً وحذراً. عيشو، الجالسة لصق المرأة الغريبة، تبسمت في داخلها وهيَ تتابع ذلك الحوار الصامت مع زير النساء. في التالي، سامحت هذا الأخير على تعريضه بعصابة زوجها، مدركةً أنه أعطى بها مثلاً كي يُرضي المرأة. لحُسن الحظ، أن سلطانة كانت تتابع إذاك الطريقَ ولم تنبته على ما يبدو لبقية الحديث. وإلا لأرعبت الراكبة الغريبة بالقول، أن امرأة زعيم العصابة، التي أشار إليها شقيقها صالح، موجودة معهم في السيارة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج عادل عوض يكشف كواليس زفاف ابنته جميلة عوض: اتفاجئت بع


.. غوغل تضيف اللغة الأمازيغية لخدمة الترجمة




.. تفاصيل ومواعيد حفلات مهرجان العلمين .. منير وكايروكي وعمر خي


.. «محمد أنور» من عرض فيلم «جوازة توكسيك»: سعيد بالتجربة جدًا




.. فـرنـسـا: لـمـاذا تـغـيـب ثـقـافـة الائتلاف؟ • فرانس 24 / FR