الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن رواية يحيى يخلف: نجران تحت الصفر

محمود شقير

2020 / 2 / 25
الادب والفن


1
أعود إلى هذه الرواية التي قرأتها في سبعينيات القرن العشرين لأجد أنها ما زالت قادرة على اجتذاب المتلقي، وما زالت الرسالة التي تتبدى من بين سطورها قابلة للتعميم على زمننا العربي الراهن الذي يشهد تفككًا وتشرذمًا وهوانًا وتبعية.
"نجران تحت الصفر" هي وليدة تجربة حيّة عاشها الأديب يحيى يخلف، وهي واحدة من ثلاث روايات فلسطينية كتبها ثلاثة أدباء مارسوا مهنة التدريس في مطالع الشباب، في شبه الجزيرة العربية، وتعايشوا مع بيئة متخلفة نائية في الصحراء أو على الحدود مع اليمن كما هي الحال مع يحيى يخلف، أما الأديبان الآخران فهما إبراهيم نصر الله الذي كتب "براري الحمّى" وجمال ناجي الذي كتب "الطريق إلى بلحارث".
كانت نجران في ستينيات القرن العشرين مركزًا للتآمر على الثورة اليمنية وللتدخل في شؤون اليمن بعد خلع الإمام البدر القادم من العصور الوسطى ومن أزمنة التخلف. أثناء ذلك؛ كانت الطائرات المصرية المناصرة للثورة تقصف بين الحين والآخر تجمعات المرتزقة وأماكن قياداتهم في نجران وغيرها من المناطق، ولم يكن من شأن الرواية المكتوبة بلغة شاعرية وبسرد حميم وبمشهدية مشخّصة أن تدخل في تفاصيل الحرب إلا بالقدر الذي يخدم حركة الشخوص وفنّ الرواية التي تبدأ بمشهد مؤثر مثير تمثّلَ في قطع رأس اليامي في الساحة العامة بسبب اتصاله بالجمهوريين، ثم يتوالى عرض المشاهد وتقديم وفرة من الشخوص بطريقة لافتة.
من جانب؛ ثمة الفقراء ومن يمثلونهم: أبو شنان صديق اليامي، وسميّة التي تعدُّ بمثابة أمٍّ لليامي وأبي شنان، وابن أمينة والسقاء والزبال عباجة وابن عناق والولد عبد المعطي، وأخيرًا مشعان القائد النقابي الذي تحدى الأمريكان وقاد إضرابًا عماليًّا ضدهم حين كان يعمل في شركة الأرامكو في الدمام ما جعله عرضة للتعذيب وللسجن جراء ذلك.
هؤلاء جميعًا تتعاطف معهم الرواية، إنما من دون تحيز سافر أو دعاية مكشوفة، بل بما يشبه الحياد الذي يضفي رصانة على السرد وإيحاء بالموضوعية في النظر إلى تفاصيل الصراع.
من جانب آخر؛ ثمة بو طالب ممثل الثورة المضادة في نجران الذي يجند المرتزقة للقيام بأنشطة مسلحة ضد الثورة، ولمساندة الإمام المخلوع الزاحف عبثًا نحو العاصمة صنعاء. وثمة "المستر"، وهو رجل أمن أمريكي ممن يشرفون على عملية التدخل والمساندة، مستعينًا بوسائل شتى، من بينها استخدام امرأة اسمها ريتا وعدد آخر من النساء لإغواء الرجال وللتسرية عنهم في المعسكرات المدججة بالسلاح وبالمسلحين.
وثمة المطاوعة الذين يتدخلون في شؤون الناس ويجعلون حياتهم جحيمًا لا يطاق، وكبيرهم العنّين الذي خانته زوجته وتعرّضت للرجم في الساحة العامة.
وثمة من كان محايدًا مثل رأفت العدني الذي اعتقل جراء خطأ لغوي حين أرسل برقية لعمّه في مدينة جدّة يطلب منه إرسال قوالب لصنع الفلافل، غير أن موظف البريد المسطول كتب كلمة قنابل بدلًا من كلمة قوالب، فلم يصدقه المحققون الذين عذبوه في السجن للحصول منه على اعترافات.
ثم هناك الزيدي المتردّد الذي اقتيد إلى القتال مع المرتزقة ثم فقد ساقه جراء ذلك.
2
في هذه الرواية؛ يجري تقديم الشخوص بطريقة تخلو من المبالغات أو من تحريض المتلقي على حبّ الشخصية أو الوقوف ضدها بأسلوب مباشر أو برغبة مسبقة في الإشادة أو في الإدانة، إذ تتقدم الشخصية الروائية على سجيتها من خلال لغة الوصف القادرة بكلمات قليلة على رسم ملامح الشخصية وما تتسم به من مزايا وصفات، وكذلك من خلال استخدام الضمائر المختلفة وتيار الوعي الذي يتيح لبعض شخصيات الرواية، وبخاصة الأساسية منها، التعبير عن خلجاتها الداخلية على النحو المطلوب.
وبين الحين والآخر يتصاعد السرد للوصول إلى موقف درامي يجري التمهيد له بشكل غير مباشر. نشهد ذلك لدى قطع رأس اليامي الذي لم تجهز عليه ضربة السيّاف من أول مرة، ولدى قطع يد ابن أمينة بعد سجنه جراء محاولته التهام جزء من لحم الذبيحة في أحد الحوانيت، ومشاهد أخرى ناتجة من غضب الطبيعة ومن الأمطار التي جرفت بيوت حارة العبيد، أو إسقاط الطائرات حممها على تجمّعات المرتزقة، ما جعل بو طالب يهرب وهو حافي القدمين بعد أن كان يندّد بمن يفكر في الهرب من أتباعه أثناء القتال.
أما الانعطافة الكبرى في تسلسل السرد فقد كانت في تحوّل أبو شنان من النقيض إلى النقيض ثم عودته عن المسار الخاطئ الذي سار فيه. فقد استغل بو طالب والمستر حاجة أبي شنان إلى الخمر والنساء، وجعلاه يناصر المرتزقة والمتدخلين الأجانب جراء معرفته باللغة الانكليزية حين كان يعمل مع مشعان في شركة أرامكو، ثم عاد إلى رشده بعد وقت واستيقظ ضميره تحسبًا من غضب "أمّه" سمية وبقية الناس الفقراء الطيبين. ترك أبو شنان الغانية ريتا وغادر معسكر المسلحين وعاد إلى نجران، وظل هناك إلى أن جاءته دعوة من صديقه مشعان، للقدوم إليه في مدينة جدّة.
سافر سرًّا في شاحنة إلى هناك، وكان في هذا اللقاء مع مشعان إشارة رمزية إلى ضرورة العمل المنظّم ضد المستغلين الأجانب وأتباعهم المحليين، وقد استجاب أبو شنان لذلك تاركًا خلفه نجران التي شهدت هزيمة أنصار الثورة المضادة.
3
أخيرًا؛ إن ما يضفي رونقًا خاصًّا على الرواية ذلك الفصل الذي جاء بعد النهاية، وفيه إشارة حميمة إلى تجربة يحيى يخلف أثناء معايشته للأحداث وللشخصيات التي شكلت مادة روايته، وبخاصة ذلك الفلسطيني؛ زميله المدرّس كمال الغزاوي، الذي التقاه في جدّة وانتظرا معًا أيامًا بالغة الصعوبة قبل السفر إلى نجران للتدريس في مدارسها، وللتوصل إلى قناعة بأن الطريق إلى فلسطين تمرّ عبر التخلص من التخلف العربي الماثل في نجران العصور الوسطى، تلك القناعة التي جعلت كمال يحرض على مناصرة الثورة ويتوق إلى المشاركة في القتال دفاعًا عنها، ما تسبّب في نقله إلى مدرسة نائية على الحدود، وما عرّضه لقصف إحدى الطائرات له ظنًّا من قائدها أن كمال هو أحد المشاركين في الثورة المضادة.
في الرواية وفي هذا الفصل الأخير تتبدّى قدرة يحيى يخلف على الوصف وعلى تجسيد ملامح البيئة التي كتب عنها، وكذلك الأماكن التي شكلت خلفية الرواية وهذا النص سواء بسواء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث