الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سياج بيتي

جعفر المظفر

2020 / 2 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


أكملت بناء بيتي في الغزالية بداية عام 1980 على قطعة أرض منحت لي بموجب قانون عودة ذوي الكفاءات الذي شمل بالنهاية جميع أصحاب الشهادات العليا. في السنين الثلاثة أو الأربعة التي تلت ذلك التاريخ كان سياج بيتي, مثلما هي العامة من الأسيجة لا يتجاوز أرتفاعه المتر, وكان من شأن ذلك أن لا يقطع صلتك بالمكان العام بما يؤسس لثقافة مكانية أوسع من أن يضيق عليها السياج الخاص. وبغض النظر عن ما إذا كان هناك إختلاف على طبيعة النظام السياسي أو وجود إنسجام معه, فإن من الحق الإعتراف بأن الأمن العام وقتها كان مستتبا كما أن التغييرات ذات الصلة بالإستقرار والتقدم الاقتصادي كانت واضحة وواعدة أيضا.
في البداية كان للحرب مع إيران البصمة الواضحة لتغيير (ثقافة الأسيجة) وصلة المكان المجتمعية. قبلها كان بإلإمكان من خلال السياج المشترك الواطئ بيني وبين جاري أن يراني وأن أراه وأن نتواصل يوميا بما عزز العلاقات بيننا. وحتى مع السائرين في الشارع المجاور كان ذلك التواصل قائما بما خلق مستوى إيجابيا من العلاقات الاجتماعية المتواصلة بين أبناء المنطقة جميعا.
غير أن الحرب سرعان ما مدت يدها لتغير وحتى تهدم ثقافة المكان القديمة. لقد أصبح المزاج العراقي معقدا وتراجعت الثقة بين أبناء المنطقة الواحدة.
تصاعد شكيمة الدولة الأمنية وإرهاب القائد الفرد والخوف من الجار ووشاية التقارير الحزبية والخوف من الإلحاق القسري بقواطع الجيش الشعبي المتجهة إلى الخطوط الأمامية, إضافة إلى تصاعد الجريمة والسطو المسلح على البيوت التي رافقها إفناء عائلات بكاملها, هذه المتغيرات السريعة وغيرها قد أدت إلى الإطاحة بثقافة الأسيجة المفتوحة وإستبدلتها تدريجيا بثقافة المكان المنعزل المغلق على صاحبه وأهله وذلك بعد أن أصبح هناك خوف حقيقي ومتبادل بين الجار وجاره.
جاري الذي كنت أتبادل الحديث معه أصبح يتسلل بخطوات سريعة حتى يفتح باب البيت الخارجي ويقفز سريعا إلى سيارته. زوجته لم تعد تتعمد الإطلالة من السياج لتفقد زوجتي والحديث معها. ذلك الجار الذي كان قد تزوج حديثا, والذي كان يجد متعته في اللعب والمزاح مع طفلي يوميا وحتى إحتضانه وتقبيله, أصبح يتجاهلني. ولذا قررت ذات يوم أن أبادر لأخفف عنه رهابه اليومي فشاهدني مع عامل بناء منهمكيْن في إضافة عدة طابوقات لرفع السياج الفاصل بيننا إلى المستوى الذي يعفيه من رهاب السياج والمكان ويوفر عليه عذاب التسلل اليومي من بيته. كان رد فعله إبتسامة معبرة عن الإمتنان بدلا من إظهار الإنزعاج أو الخيبة, ولقد كانت تلك آخر إبتسامة نتبادلها سوية قبل أن تحل بيننا القطيعة الكاملة.
بعد فترة قصيرة تبين لي أن الرجل قد أفلح بالتسلل إلى إحدى المديريات العامة فقرر بالتالي أن يقطع صلته بي لوجود متابعات سياسية وأمنية ضدي رأى أن من الخطأ عدم تلافي أخطارها.
ومع إستمرار الحرب إستبدل الناس المثل الذي يقول (صيت الغنى ولا صيت الفقر) بآخر يقول (صيت الفقر ولا صيت الغنى) متمنين أن يكون للمثل في حلته الجديدة أثرا في إقناع اللصوص أن صاحب الدار مفلس ولا يملك شيئا يستحق السرقة.
بالنسبة لي تعرضت داري إلى سرقتين وقد حمدت الله حينها على أن أنهما قد تمتا وعائلتي خارج الدار, إذ أن لصوص الحرب والحصار ما عادوا مثل لصوص الجوع الذين سبقوهم.
اللصوص القدماء, كانوا يحرصون على أن يسرقوا البيوت بعد أن يتيقنوا أن أصحابها قد غادروها لعملهم اليومي أو ربما لسفر, أما لصوص الحروب والحصار فكانوا يتعمدون السرقة بعد أن يتأكدوا أن أصحاب الدار هم في داخلها, لأن ذلك كان سيوفر عليهم صداع البحث عن المواد والسلع الثمينة كالحلي الذهبية أو الدولار وذلك من خلال تهديد ساكني الدار بالذبح , وبين حين وآخر كنا نستمع إلى قصص الإبادة الجماعية لأهل الدار التي يقدم عليها أولئك اللصوص وذلك للتخلص من كل ما يشهد على جريمتهم إذا ما تبين لهم أن أهل الدار قد تفحصوهم.
جارتي الحلوة الحديث والروح أخبرتنا, بعد تزايد السرقات وسماعها الجرائم المرافقة التي يرتكبها اللصوص, أنها إتخذت (كامل) الإحتياطات لحماية زوجها وأولادها من أخطار القتل إذا ما إستهدف اللصوص بيتها.
تخيلتُ أنها إشترت مدفعا رشاشا وأنها دخلت وزوجها وأولادها إلى معسكر تدريبي للرماية وتعليم فنون القتال كـ (الكارتية أو الكونغ فو) فطلبت مني التوقف عن التخيلات, وإكتشفت أنها بالأساس لا تخطط لأي شيء سوى جمعها الحلي والمواد الثمينة وبضعة آلاف من الدولارات ووضعها في مكان واحد يسهل إيجاده من قبل اللصوص حتى لا تقع تحت طائلة الأخطار التي قد تتعرض لها عائلتها أثناء تحقيق اللصوص معهم بحثا عن الموجودات الثمينة.
كنت بعد السرقة الأولى قد رفعت السياج إلى المستوى الذي يعزلنا تماما عن الشارع المجاور وعن الجيران الآخرين. بعد السرقة الثانية ولأغراض الردع أضفت على السياج أسلاكا شائكة برفقة شظايا من الزجاج الملتصق بأعلى الجدار, ثم عملت ما كان غيري قد سبقني إليه إذ تعاقدت مع حداد قضى أياما عدة وهو ينصب حول داري سياجا من الحديد يصعد من أساس البيت حتى محيط سطحه تاركا على الأرض بضعة أقدام هي عرض الممشى الذي يفصل ما بين جدران البيت وحديقته.
بذلك فقد تنقبت البيوت قبل أن تتننقب النساء وأصبحت البيوت مثل أماكن للإقامة الجبرية مقفلة على ساكنيها. وبدلا من السياج الواطئ والمفتوح على الجار وعلى الشارع المجاور دخلنا في عصر (البيوت المُكّبْسَلة).
وحينما إستدعتني الشرطة الجنائية في منطقة المسبح للتعرف على بطل السرقة الأولى ظهر أن الرجل لم يكن فقيرا أو محتاجا وإنما كان إبنا مرفها لعائلة غنية ماديا, وقد عكست رواياته المتعلقة بغزواته اللصوصية وجود حالة من تراكم الأحقاد الذاتية التي نتجت من الإنهيار القيمي للدولة وطبيعة قياداتها ومنظومتها الحزبية وذلك بفعل الحربين والحصار وسقوط النماذج المتمثلة بشكل خاص بأبطال العائلة الحاكمة وفي المقدمة منهم (زين الشباب عدي صدام حسين).
سقوط الحواجز الأخلاقية وسقوط النماذج القيادية, وتلك التي في خانتهما, شكلت مصادر الإنهيار المجتمعية الرئيسة, وحينما سقطت القلوب سقطت الحدائق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لصوص زمان
ماجدة منصور ( 2020 / 2 / 27 - 11:48 )
لصوص زمان...كانوا محترمين بالقياس للصوص و حرامية زمننا الأغبر هذا0
رحم الله حرامية زمان...فقد كان لديهم ( بعد نظر)0
شكرا لكم

اخر الافلام

.. الصحافي رامي أبو جاموس من رفح يرصد لنا آخر التطورات الميداني


.. -لا يمكنه المشي ولا أن يجمع جملتين معاً-.. شاهد كيف سخر ترام




.. حزب الله يعلن استهداف موقع الراهب الإسرائيلي بقذائف مدفعية


.. غانتس يهدد بالاستقالة من الحكومة إن لم يقدم نتنياهو خطة واضح




.. فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران تعلن استهداف -هدفاً حيوياً-