الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث عن عائشة: الفصل العاشر/ 2

دلور ميقري

2020 / 2 / 29
الادب والفن


بمجرد إعلام عيشو رجلها تفاصيل قصة سلب الأسرة النصرانية، وما سببته من مأزق أخلاقي لقريبها صالح، فإنه راحَ يذرع المجال الضيق لخطواته في حجرة النوم. كانت العتمة منسدلة مذ بعض الوقت، والنسيم الجبليّ العذب يُبشّر بانتهاء موجة الحر. علاوة على سخطه المعهود من أيّ ذكر لأفعال شقيقه الشائنة، كان يشعرُ خصوصاً بالخجل والحرج تلقاء موقف أمه من تلك الأفعال؛ هيَ مَن كانت تفتخر بها علناً، بزعم أنها انتزاعٌ لحق الفقراء من بين براثن الأغنياء. لكنه لم يكن في مقدوره مواجهة والدته بالحقيقة، حدّ حصول خصام بينهما. السلام العائليّ، كان من أولوياته، ما لو أُخِذَ بعين الاعتبار وجودُ أسرة شقيقه بين ظهرانيهم. وإذاً، فضّل أن يختنق داخله من الانفعال، على أن يدخل في خصام مع سيدة الدار، المتصفة بالعناد أكثر من أي شيء.
" بما أنّ خبرَ سلب الأسرة النصرانية لم ينتشر سوى بين أقارب كتومين، ليسَ علينا إلا انتظار ما تُخبئه الأيام. وفي كل الأحوال، اتصفَ موقفُ صالح بالشهامة؛ ومن العدل أن يُشكر عليه. هذا ما سأفعله حينَ ألتقي به، وذلك لطمأنته أيضاً على أن أحداً لن يقدر تلويث سمعته مستقبلاً "، كذلك كان تعليقه على ما سمعه من امرأته حول القضية. في حقيقة الحال، أنه لاحَ أكثر حاجة للطمأنينة ممن تورط بالقضية. بيد أنه ارتاح رويداً لفكرته، بحيث أنه استعد للذهاب إلى مناوبته الليلية وكانت ملامحه قد استعادت رونقها المعتاد. خرجَ من الحجرة المضاءة بالمصباح الكهربائي، ليستقبل صديقَهَ، الظلامَ، الذي سيبقى برفقته ساعاتٍ عديدة. مع ذلك، شاء التعريج على والدته وكانت جالسة في الإيوان مع مسلّة الخياطة. قال لها، متنفساً في عسر: " حمو جمّو، الشاغل حديثه الشام كلها، ظهرَ أنه ابنك حسّو "
" سبقَ أن أعلمتني بذلك امرأته، لكنني لم أذكره لك كيلا أشغل خاطرك "، ردت الأم بعد لحظة تفكير وما لبثت أن تابعت عملها. قال لها بينما يتحرك لمغادرة المنزل: " الأوضاع تتغيّر، وربما لن تتاح لحسّو فرصة النجاة مرة أخرى ".

***
في حجرتها، المنعزلة على طرف المنزل، كانت فاتي مع طفلها البالغ عامين من العُمر، وقد جعلت البابَ موارباً أملاً في الحظوة بالنسيم المعتدل والمتأثر تقلّبَ المواسم. لم يصل لسمعها حديثُ شقيق زوجها مع والدته، لكنها كانت مستسلمة لذكريات متواشجة مع ذلك الحديث.
لم يكن قد مضى على تركها لرجلها أكثر من عام، وكانت سعيدة معه برغم الخطر الملازم لهما على مدار الساعة. مرت تلك الأيام مثل حلمٍ هانئ، بالأخص فترة الاستقرار في وادي بردى، الأشبه بالمكوث في الفردوس. لكنها كانت آنذاك تُدرك أنها أيامٌ ستنقضي سريعاً، كون رجلها دائم الحركة بسبب طبيعة نشاطه كقاطع طريق. كم تتمنى الآنَ لو يُتاح لها توديع الصيف بإطلالة على قرية بسيمة، للاجتماع مجدداً بالزوجين الطيبين، الذين كانا يستقبلانها كأنها من أفراد الأسرة. ولو كان لها شيء من القيمة بنظر أسرة رجلها، فكّرت فاتي بكرب، لكانت عيشو قد اصطحبتها في سيارة قريبها إلى الزبداني وربما لأتيح لها عندئذٍ المرور على تلك الأسرة الكريمة.

***
بدَورها، راحت عيشو تستعيد الأسبوعين الذين قضتهما في الريف تحت سماءٍ تصدحُ بقرع أجراس الكنائس وتغريد الطيور، بينما خرير الجداول يتناهى من عمق الوادي، المصبوغ بعشرات ألوان أزهاره البرية، النامية بين الأحجار والصخور. مزرعة الجدة، وهيَ آخر ما تبقى لهذه من الأراضي بسبب الأزواج الجشعين، كانت أيضاً مزدهرة بألوان من الفاكهة، كالتفاح والكمثرى والدراق، لا يوجد لها مثيل في أيّ مكان آخر لناحية الحجم الضخم والطعم اللذيذ. ثم ابتسمت عيشو لمشهد كبرى ابنتيها، كَولي، وكيفَ كانت تشد طرف ثوب جدتها ذات ظهيرة، لحثّها على الوفاء بوعدٍ قطعته في الليلة السابقة، أن تدعها تسبح في مياه الجدول، الجاري من جانب المزرعة. لقد كان ذاك يوماً حاراً، ودّ هوَ أيضاً لو يستحم بماء الجدول. خلّو، الأب، هوَ من سبقَ وعلّمَ الابنة كيفَ تطفو على سطح الماء أثناء مرافقتها له في الطريق إلى بساتين الحارة. شقيقة عيشو، رابعة، البالغة عشرة أعوام، أغرقت نفسها بالدموع يوم المسير إلى الزبداني، لتعذر اصطحابها في السيارة بسبب الظهور المفاجئ لسلطانة.
إنها كذلك مستسلمة لتيار الذكريات العذب، المنعش مثل نسيم الليلة الجبليّ، لما شعرت عيشو ببذرة حياة تنمو في باطنها. مذهولةً، وضعت يدها على بطنها كي تتأكد من هذا الشعور وما لو أنه حقيقة وليسَ وهماً: بلى إنه شعورٌ نبيل، برغم غموضه للوهلة الأولى، تعرفه كل مَن جرّبت الأمومة، لا يفتر يلحّ على صاحبته إلى أن يأتي دورَ القابلة كي تؤكده مع ابتسامة عريضة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج عادل عوض يكشف كواليس زفاف ابنته جميلة عوض: اتفاجئت بع


.. غوغل تضيف اللغة الأمازيغية لخدمة الترجمة




.. تفاصيل ومواعيد حفلات مهرجان العلمين .. منير وكايروكي وعمر خي


.. «محمد أنور» من عرض فيلم «جوازة توكسيك»: سعيد بالتجربة جدًا




.. فـرنـسـا: لـمـاذا تـغـيـب ثـقـافـة الائتلاف؟ • فرانس 24 / FR