الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غسل الرأس

حامد تركي هيكل

2020 / 2 / 29
الادب والفن


عندما كنت صغيرا ، كان الناس عندما يستحمون يقولون غسلنا رؤوسنا. فغسل الرأس يعني أخذ حمام كامل بما في ذلك غسل الجسد كله وبضمنه الرأس طبعا.
وقد أثار اهتمامي وقتها ذلك المصطلح الغريب، فلماذا لايقولون غسلنا اجسادنا؟او غسلنا اجسامنا؟
ولكنني نسيت تلك المفارقة لسببين، الأول ان الناس لم تعد تستخدم ذلك التعبير لوصف الاستحمام او الاغتسال، والثاني انني شغلت بأمور أخرى أكثر تعقيدا من هذه القضية التافهة.
ولكنني تذكرت هذه القصة مرة أخرى عندما قدمت للسكن في أربيل ، ذلك لأن الكرد يسمون الاستحمام ايضا ( سه ر شوشتن) وتعني غسل الرأس حرفيا. ثم انني ربطت هذا الاكتشاف بما كنت اسمعه من أهلي قديما ، ووضعت القصة جانبا مرة أخرى .
اليوم وبعد ان كثر الحديث عن الاغتسال بسبب تفشي فايروس كورونا المستجد، وحين كنت واقفا تحت مرش الماء في حمامي أغسل جسدي كله، تذكرت تلك القصة ، وسألت نفسي ، ترى هل أنا الان أغسل جسمي كله؟ أم إنني أغسل رأسي؟
ولماذا كان أهلنا يطلقون على غسل الجسد عبارة غسل الرأس؟
رغم أنني كنت أرى أفرادا من عائلتي في ذلك الزمان البعيد يغسلون رؤوسهم فقط، ثم يبدون منتعشين فرحين كمن قام بغسل جسده كله، الا ان ذلك ربما كان يحصل بفترات متقاربة ، فهم يغسلون أجسادهم في الحمام أيضا ربما مرة بالأسبوع . ومع هذا فهم يسمون العمليتين غسل الرأس. ربما أجد لأهلي في البصرة العذر في عدم استساغتهم لمفردة الاستحمام، فهي تعني فيما تعني استعمال الحمام الحار ، ولم يكن حمامنا حارا ولا حاميا على أية حال، ولم تكن الحماوة مستساغة في مناخ تغلب عليه صفة الحماوة ، وبهذا يكون الاغتسال طلبا للبرودة لا للحماوة ، فيكون ربط العملية بالحرارة أمرا غير مريح. ومع هذا ، لم يحاول أهلي استبدال مفردة حمام بمفردة أخرى تليق بظروفهم المناخية ، فالحمام بقي حماما رغم أنه كان برّادا غالبا، ولم يكن يُدَفأ الا نادرا اياما معدودات.
على أية حال لم يعد أحدٌ يقول عن الاستحمام او الاغتسال في البصرة غسل الرأس ، بل إنهم استعاضوا عنها بمفردة خاطئة أخرى ، وهي السباحة ، رغم ان الحمام لا يحتوي على حوض سباحة ولا هم يغطسون حين يغتسلون . ولكنهم فضلوا هذه المفردة ربما لأنهم يتمنون ان يحصلوا على الانتعاش في حماماتهم كذلك الانتعاش الذي يحصل لهم حين يعومون في شط العرب .
وقد تكون مفردة غسل الرأس عوضا عن غسل الجسد مرتبطة بالحياء. ذلك لأن الاغتسال بحد ذاته عملية بيتية، والعمليات البيتية مرتبطة بالمرأة، وهي وحدها التي تسمي الأشياء التي تقع ضمن فضاءات بيتها ، فيسمعها الأطفال ، ثم يتبنون تلك المفردات ويظلون عليها حتى الذكوز منهم وحتى عندما يصيروا آباءا، فهم يقولون أنهم يغسلون رؤوسهم عندما يستحمون.
فالمرأة ربما تخجل أن تقول غسلت جسمي ، لأن ذلك قد يثير في عقل السامع صور أجزاء من جسمها ، فثثير في نفسه نوازعا غير محمودة.
وربما استخدم أهلنا مفردة غسل الرأس بدلا عن الاغتسال لارتباط الاغتسال بأمور أخرى ، كاغتسال الجنابة والنجاسة، وهي أمور يصعب التصريح بها في فضاء العائلة المحافظة.
وربما حبذوا استعمال مفردة غسل الرأس عوضا عن غسل الجسد كله ، لشرف الرأس وأهميته . أو ربما لأن غسله هو الجزء الأصعب في عملية الاغتسال كلها وخاصة عند النساء. فهو يتضمن فلّ الظفائر ، وغسل الشعر بالصابون الرقي، ثم بالطين خاوة ، ثم تمشيطه بالمشط الخشبي لاستخراج ما قد يكون قد علق به من قمل وخلافه، وربما تطلب الأمر استخدام الخل وغيره . وهي عمليات لا يوجد مثيل لها عندما يتعلق الأمر بغسل الجسد. اللهم الا ما يكون من مشقة مماثلة في غسل الأقدام وما يتطلبه غسلهما من استخدام حجر بركاني لازالة الجلد الميت ، وما أكثر الجلد الميت في قدمي أمرأة تكد حافية في بيتها من الفجر الى العشاء!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي