الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فردوس الفقراء

دلور ميقري

2020 / 3 / 5
الادب والفن


منذ تعرفه على مراكش قبل أعوام عديدة، كان طريقه اليوميّ إلى المدينة القديمة لا يتغير في غالب الأحيان. أصلاً منزل حميه، يقع في أحد أحيائها، وكان يتوجب عليه السيرَ إلى ساحة جامع الفنا، متخذاً في كل مرة درباً مختلفاً. أما في حالة ركوبه سيارة الأجرة، بالأخص في أوقات الحر الشديد، فإن الطريقَ يمضي في جهة واحدة، محددة.
كونه صديقاً للحدائق، عرفها جميعاً؛ بما في ذلك " ماجوريل "، التي أسسها في بداية القرن الماضي مهندسٌ فرنسيّ. وهذه الحديقة تشترط لدخولها دفع ثمن تذكرة، باهظة السعر بالنسبة للفقراء. لكنه كان يجد سعادته حقاً في " عَرَصَة مولاي عبد السلام "، الممتدة على مساحة واسعة من جنوب مسجد الكتبية إلى مدخل حي غيليز، الراقي. كان هناك في مبتدأ حكايتنا، وكان الوقتُ في خلال أوج الصيف. شجرتا جميز، هائلتا العلو والضخامة، كانتا تمنحان ظلاً كريماً للبقعة الأثيرة، أين مجلسه المعتاد. ثمة انبثقت عشرات النوافير من بركةٍ كبيرة، قُسّمت على أربعة أجزاء مع حوض لكل منها، تتفرد فيه شجيرة ليمون. هنا في الوسع الجلوس لساعات، وكأنما الطقسُ الملتهب خارجَ الحساب. المقعد الحجريّ الأنيق، حيث جلسَ، كان مزدوجاً ومفصولاً عن بعضه البعض بوساطة حاجز بعرض عشرين سم تقريباً.
فتاة في مقتبل العُمر، حنطية اللون، طويلة القامة وممتلئة نوعاً ما ـ جاءت كي تجلس ببساطة فوق الحاجز بحيث التصقت مؤخرتها بكتفي بطل قصتنا. كان برفقتها ما يبدو أنها شقيقتها، تصغرها قليلاً، فضلاً عن طفل في نحو السادسة أو السابعة. مُحرجاً، لم يستطع الشاب التزحزحَ عن مكانه بسبب وجود زوج سياح فرنسيين إلى جانبه. كلاهما كان في سن الشيخوخة، وقد ابتسما للشاب أكثر من مرة. ضايقه ذلك، ما جعله يتردد في مغادرة المكان: كان صعباً على كرامته، الظهور كالهارب من عبث فتاة مراهقة. آثرَ الانتظار لبعض الوقت، لعل الفتاة تغير جلستها أو تغادر الحديقة. لكنهما الزوجان الأجنبيان، من نهضا بعد قليل وابتعدا عن المجلس باتجاه مخرج الحديقة.
" أوف من السياح العجائز..! "، قالت له الفتاة الجريئة وهيَ تنزلق بنعومة لتجلس في مكان العجوزين المغادرين. ثم أضافت وهيَ تتمعن بعينيه: " ظننتك لأول وهلة من أولئك الكَاوري، لحين أن انتبهتُ للكتاب العربيّ في يدك ". تخففَ عندئذٍ من الحرج، وما عتم أن بادلها الحديث. وكانت شقيقتها قد انضمت لمجلسهما، فيما الصغير راحَ يلهو بجانب البركة. أحد عمال الحديقة، لاحَ أنه يراقب البقعة المظللة من مكانه على الطرف الآخر منها. متعللاً بشقيق الفتاتين، اقتربَ كي يطلب منهما منعه من اللعب بالماء. في الأثناء، كان العاملُ يرمق الشابَ الغريب بنظرة متفحصة. لم تأبه كبرى الفتاتين بملاحظة مراقب الحديقة، وما أن ابتعد حتى بادرت لسؤال رفيق الجلسة عن عمله وذلك عقبَ معرفتها اسم بلده: " أنت موجود في المغرب بهدف الاستثمار؟ "
" نعم، لكنني أستثمر في مجال الكتب "
" الكتب؟ عجباً! هذه أول مرة أسمع بأن أجنبياً يستثمر في تجارة الكتب "، قالتها ضاحكة. شاركتها شقيقتها شعور المرح. قال الشاب موضحاً: " عنيتُ أنني بنفسي كاتبٌ، وهذه هي مهنتي "
" آه، الآن فهمتُ عليك. أنت تكتب قصصاً؟ "
" بلى. وأنت، هل تحبين قراءة القصص؟ "
" قرأت بعض القصص الفرنسية في منهاج الدراسة، ومنها أحدب نوتردام "
" ألم تقرئي لكتاب مغاربة؛ محمد شكري، مثلاً؟ "
" نعم، قرأنا أيضاً ‘ الخبز الحافي ‘ في المنهاج المدرسي "
" معقول، وهيَ سيرة ذاتية بمنتهى القسوة؟ "
" آه معك حق، لم يعجبني الكتاب أبداً! "، أوضحت الفتاة وكانت قد بدأت تضجر من هذا الحديث. مجاملةً، جر الحديث إلى وضعها العائلي هذه المرة. فقالت أنها بالأصل من مدينة أسفي، والدها حصل على تقاعد مرضي من عمله في منجم فوسفات هناك: " المدينة ملوثة بسبب المنجم والمعمل الملحق به، وقد أصيب كثيرون بالسرطان جراء ذلك؛ ومنهم أمي، التي رحلت شابةً "، اختتمت الفتاة سيرتها. وإنما في اللحظة التالية، رن موبايل الشاب الغريب. كانت امرأته على الخط، وقد سألته عما لو سيشارك العائلة الغداء. عقبَ المكالمة، حل صمتٌ لعدة دقائق. بعدئذٍ نهضت الفتاة فجأةً على قدميها، طالبة من شقيقتها أن تنادي الصبيّ. وَدّعت جليسها الغريب بنبرة منكسرة، وما لبثت أن ابتعدت مع شقيقيها في اتجاه المخرج. بقيَ منتظراً لدقائق، قبل أن يقوم بدَوره كي يغادر الحديقة.
فكّرَ فيما كان يسير بإزاء سور الحديقة الخارجيّ، نافخاً بحزن: " لولا المكالمة، كنتُ وددت دعوتهم إلى مطعم مكدونالدز. كان ذلك، ولا شك، سيجلب سعادتهم ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج عادل عوض يكشف كواليس زفاف ابنته جميلة عوض: اتفاجئت بع


.. غوغل تضيف اللغة الأمازيغية لخدمة الترجمة




.. تفاصيل ومواعيد حفلات مهرجان العلمين .. منير وكايروكي وعمر خي


.. «محمد أنور» من عرض فيلم «جوازة توكسيك»: سعيد بالتجربة جدًا




.. فـرنـسـا: لـمـاذا تـغـيـب ثـقـافـة الائتلاف؟ • فرانس 24 / FR