الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجلوس في مدينة الذكريات

رياض كاظم

2006 / 6 / 14
الادب والفن


قصة قصيرة

الى وليد عبد الله

في الأعوام الماضية ، وفي فصل الشتاء بعد ان نزل المطر ، وصلت الى المدينة عربة قديمة تشبه تلك التي كان يقودها ( الملك غازي ) في جولاته الرياضية ، كانت رغم قدمها ، لامعة ونظيفة تجذب انظار المارة ، وفي المقعد الخلفي كانت تجلس عجوز طاعنة بالسن ، تبدو كساحرة خبيثة ، والى جانبها ( الست لنده ) وهي بكامل زينتها وهمومها ، ترنو بكسل الى المارة وكأنها تريد اختيار عشيق منهم ، ثم طلبت من السائق ان يدور في أزقة المدينة وشوارعها وحواريها ، بحثاً عن منزل واسع بخمس غرف وحديقة واسعة .
مرت السيارة في ( عكد الهوى ) ، واتجهت حتى نهايته حيث ( فلكة سيد هادي ) ، ثم عادت ادراجها ، فضوضاء الشارع وزحمته وضيق بيوته ، لم تعجب السيدة ، فطلبت من السائق ان يعبر الجسر الى الضفة الأخرى الأكثر جمالا والأخف زحمة .
كانت تشعر بثقل في صدرها منذ ان غادرت منزلها الكبير في بغداد ، هرباً من حب قديم أوجع قلبها ودمر حياتها ، فأرادت الهرب الى مكان قصي لا تلاحقها فيه تلك الذكريات المؤلمة والروائح التي تجلب لها طيف حبيبها الغادر ، فباعت كل ما تملك وهجرت المدينة التي ولدت ونشأت فيها الى مكان ما ، أي مدينة او قرية قادرة على معاونتها في النسيان .
لم تكن هناك اية مدينة في ذهنها ترغب بالذهاب اليها ، فكل الأماكن عندها سواء ،أي شيء يبعدها عن تلك الذكرى ، عسى ان تنسى ، تنسى فقط ، ذلك مطلبها الوحيد في الحياة حتى هذه اللحظة المجنونة من حياتها ، فقررت الهرب ، كان قرارها سريعاً ومفاجئاً ، ولم تعط لنفسها اية فرصة للتفكير ، فآلام الحب المبرحة جعلت جسدها الفتي يذوي سريعاً وعيناها الجميلتان تذبلان ، فحزمت امتعتها منذ الصباح الباكر واحتضنت قطتها وصعدت في السيارة الضخمة واشارت الى السائق ان يقودها الى حيث تأمره ان يقف .
مرت السيارة بمدن كبيرة وقرى جميلة ، لكن روحها المعذبة وقلبها الرقيق لم يهفو الى أي منها ، حتى وصلت الى ( الناصرية ) ، فتذكرت ( الست ) تلك الحكايات الجميلة التي كانت تسمعها عن الهور والقصب والأغاني الريفية والزهيريات التي تهتز لها طرباً ، فطلبت من السائق ان يجول في المدينة حتى تقرر .
كان الجو ممطراً آنذاك ، وذلك برأيها دلالة خير استبشرت بها ، ففتحت نافذة السيارة واستنشقت عبق المطر الذي اعاد لروحها المرهفة بعض من حيويتها ، فاختلفت نظرتها للناس والشوارع والبيوت وقررت ان تقطن تلك المدينة الطيبة وتموت فيها .
وبمجرد ان عبرت السيارة الجسر ، لفت نظرها منزل واسع وكبير بسياج عال واشجار معمرة تغطيه باكمله لتمنع الغرباء من التلصص على ساكنيه .... هفت نفسها لذلك البناء الرائع والجميل ، فطلبت من سائقها ان يدور حوله ، وحينما وصل الى بابه الرئيس ، نزلت من السيارة ودفعت الباب بثقة ودخلت وكأنه منزلها .
اشترت( الست ) ذلك المنزل واقامت فيه مع مربيتها العجوز وقطتها وذكرياتها الحزينة ، تحاول ان تداوي ذاتها الجريحة بالعناية بقطتها وحديقتها ، وحينما يأخذها التعب تلجأ الى كتابة ( زهيريات ) ودارميات تفيض بالعتب على الله والخلق والكائنات ، قصائد لا تشبه ما تتغنى به النسوة الريفيات في الحقول ، ولا تشبه قصائدها التي كانت تكتبها لحبيبها الغادر ، حينما كانت تعيش في بغداد ، وكانت تعزو ذلك لكونها سيئة الحظ ، فرغم شبابها وثرائها لم تستطع ان تكبح جماح رجل لعوب ، مازالت رائحته المدوخة تلاحقها وهي في اقصى الجنوب ، ( تبغ وكحول وافاوية ) فتغرق بسورة من الكآبة لا تنفع معها ، جلسات دهن البنفسج ولا عطر العود ، الذي تضمخ جسدها به مربيتها العجوز وهي تغني لها او تقص عليها حكايتها الأثيرة ( ليت لي من العشب خوصة ) ، فرائحته الطاغية التصقت بكل مسام جسدها ، دخلت بين نهديها وتحت ابطيها وخلل شعرها ، فلم يأتها النوم او الراحة ، الى اليوم الذي رأت فيه ذلك الشاعر الأسطوري ( عبد الزهرة الزيرجاوي ) ، شاعر الأغنية الريفية ، ملك التنهدات وخزين القصص والحكايات التي لا تنضب ، رأته في ( علوة ) السمك ، يساوم بائعة السمك الجميلة على ( شبوط ذهبي ) ، فشعرت بقوة خفية تجذبها لذلك الكائن الجميل الذي يعتمر عقالأ ويشماغا احمر ، وتخرج الكلمات من بين اسنانه البيضاء كطيور مدجنة ، فأقتربت منه وكانها تنظر الى الشبوط ، ثم احتكت به لكنها ويا للغرابة لم تشمم رائحته ، لكنها شممت منه رائحة قصائد وزهيريات وذكريات مدينة وقبائل وخيام ، فأنجذبت له أكثر وارادت لفت نظره ، فتمثلت ببيت دارمي تبكي فيه الشبوط الذهبي .
حينما سمع ( عبد الزهرة الزيرجاوي ) شدوها ، اخذته الدهشة ولم يجد ما يفعله سوى وضع عقاله في رقبته واعلن في السوق ( انها أشعر امرأة على وجه الأرض ) ، فهي برأيه اشعر من ( ابو معيشي ) شاعره الأريب ، واشعر من الحاج زاير وعبد القادر الناصري وحتى انها اشعر من قسام النجفي ، فطربت السيدة لأطرائه الحاذق وعرضت عليه دعوة على العشاء ليأكلا الشبوط سوية .
في مساء ذلك اليوم السعيد جاء عبد الزهرة ، بقامته الفارعة وعقاله المائل ولفافة التبغ العالقة بشفتيه ، جاء يحمل بذراعه سلة فواكه وبطل ( عرق ) اخفاه بعناية تحت الثمار ، واصطحب معه رفيق عمره المصور الكهل ( ابو عوف ) ،
طرق باب المنزل ، فاستقبلته العجوز الداهية وحدقت في عينيه طويلا ، دون ان تقول شيئاً ، حتى شعر بالأرض تميد من تحت قدميه ، فنظراتها الخارقة جعلته يظن بنفسه الظنون ، واراد ان يشرح لها انه لا يبغي شراً ب ( الست ) وانما هو شاعر ، بضاعته الكلمات ، وسعيدة الحظ من تلفت نظره ، وتحرك اوتار قلبه ، فيقول فيها ابياتا سرعان ما تنتشر كالنار في الهشيم بين الناس ،أو تصبح اغنية يغنيها ( سلمان المنكوب ) فيتكاثر عليها الخطاب الأثرياء ، اصحاب النصيب والحظوة في عالمنا هذا .
قالت العجوز – من رفيقك يا عبد الزهرة ؟
تنحنح ابو عوف واراد ان يعرف نفسه ، لكن عبد الزهرة لكزه بخصره وقال .
- ابو عوف ... رسام فطري .
جاءت القطة تموء وقفزت بين ذراعي عبد الزهرة واخذت تلحس ذقنه ووجنتيه ، فتبسمت العجوز الداهية وسمحت لهما بالدخول .
اجلستهما في الصالون الكبير وتركتهما ينتظران حتى حل وقت العشاء ، لكن الست لم تأت وترحب بهما ، او تحمل لهما العشاء ... طال انتظارهما جتى منتصف الليل ، حيث ظهرت العجوز ثانية واخبرتهما وهي تنظر في عيني عبد الزهرة مباشرة .
ان الست اصابتها وعكة ولا تستطيع ان تطل عليهما .
وفتحت لهما الباب علامة الأنصراف .
في تلك الليلة لم يستطع الشاعر النوم ، كان يتميز من الغضب والعار الذي لحقه ، واخذ يكرع العرق وكأنه يشرب الماء ، حتى ظهر شيطان شعره ، فصاح في وسط المدينة ، يصف غدر الشاعرة الفاتنة الغريبة التي تريد ان تلعب بقلبه ، وتنكس عقاله ....
اول من سمع قصيدته صديقه ابو عوف ،ثم بائعة القيمر ومؤذن الجامع والحارس وتجار السوق والزبائن والنسوة الثرثارات ، اللواتي اخذن في البحث والتنقيب عن صاحبة الحظ ، ذات اللواحظ التي تهشم الزجاج ، والشعر الحالك الذي يشبه سديم الليل ، المهرة واسعة الصدر ، التي ملكت قلب الشاعر الماجن وجعلته لا يجد للنوم طريقاً .
صحت الناصرية على القصيدة ، فغناها في اليوم نفسه ( المنكوب ، ومحيبس ، وحمدة الكاولية ) ، ورسمها ابو عوف على شكل امرأة طويلة العنق ، عيونها واسعة كالساعة وحواجبها كالهلال ، بفم احمر وصدر كالمرمر ، والى جانبها عجوز ساحرة تهمس باذنها تعاويذ واوفاق تجعلها في منأى عن الشم واللمس .
وفي اليوم نفسه ، تجمهر الخطاب على باب الست ... جاء السيد الشيخ ذو العمامة الذهبية التي تشبه قبة الجامع ، وعرض عليها خواتمة المباركة ومسبحاته التي جمعها من اصقاع الدنيا ، وجاء ( زهران ) الصابئي وعرض عليها علمه بالنجوم والكواكب والصياغة ، وجاء الشيوعي ( عباس بن مرداس ) باظافر مقلوعة وعيون مسمولة وعرض عليها شرحه لكتاب ( رأس المال ) ، ثم توافد على بابها القاضي والمفتي وابو الحلاوة ، ونام في حديقتها جمع غفير من الحجيج الذين اتوا من كل قرى الناصرية طالبين يد السيدة الجميلة .
كانت السيدة في تلك اللحظة في اوج سعادتها وارتباكها ، ففتحت نافذتها وابتسمت للجمع الغفير من العشاق ، فتساقط ثلاثة مساكين من هول الصدمة ، وضمرت عمامة الشيخ الوقور مع اصفرار وجهه ورعشة يديه ، وأكل عباس بن مرداس شروحات كتابه الخطير وبلعه دون ماء ، ففقدت المدينة كنزاً ثميناً .....
وفي نوبة جنون امر القاضي باطلاق كل المحبوسين على ذمته ، ووافقه المفتي على ذلك ، فصرخ الجميع محيين عدالة القاضي وشهامته ، ونامت المدينة وهي سعيدة على الحلم الجميل الذي صنعته الست لنده .....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريم بسيوني: الرواية التاريخية تحررني والصوفية ساهمت بانتشار


.. قبل انطلاق نهائيات اليوروفيجن.. الآلاف يتظاهرون ضد المشاركة




.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن


.. سلمى أبو ضيف قلدت نفسها في التمثيل مع منى الشاذلي .. شوفوا ع




.. سكرين شوت | الترند الذي يسبب انقساماً في مصر: استخدام أصوات