الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهاربون

علي دريوسي

2020 / 3 / 7
الادب والفن


ظروف الهارب ليست متشابهة، هناك الهارب الفقير الذي يعيش في خيمة على حدود وطنه أو في منطقة آمنة داخل وطنه، وهناك الهارب المقيم في ألمانيا وشبيهاتها والذي يتمتع بالعطايا دون وجه حق، وبشروطٍ حياتية رائعة، وبالحقوق التي لا يمكن أن تخطر على ذهنك تقريباً.

يتعاطف القلب مع النوع الأول من الهاربين الحقيقيين، مع أطفالهم وعائلاتهم، لأنَّهم بالكاد يأكلون ويشربون، لأنَّهم يعيشون ظروفاً في منتهى السوء، هؤلاء يحتاجون حتماً إلى مَدِّ يد العون وإضاءة الشموع لهم.
أما التعاطف مع النوع الثاني من الهاربين فلا مُبرِّر له، لأنَّهم ببساطة لا يحتاجونه، هناك مئات المنظمات الألمانية المدنية التي ترعاهم.

لو كانت دول العالم المُتَطَوِّرة تحترم نفسها لعملت على توحيد ظروف النوع الأول من الهاربين عالمياً، مادياً ومعنوياً، بالقياس مع ظروف الهاربين المتواجدين لديها، أو لَوجَبَ عليها التوقف نهائياً عن استقبال الهاربين الأغنياء احتراماً لمشاعر الفقراء العاجزين عن فعل الفرار.

في الجامعات، في المدارس، في المشافي، في الشركات الصناعية وفي كل مكان تقريباً من ألمانيا يوجد مطاعم لتناول وجبات الغداء والشراب وأحياناً العشاء، بطريقةٍ مدنية وبأسعارٍ مدعومة وبمواصفات صحية، ناهيك عن توفير الوقت...
الطلاب والأساتذة والأطباء والمهندسون والعمال وعابرو الطريق يأخذون وجبة طعامهم اليومية في هذه المقاصف، ما عدا شريحة من السادة الهاربين، لم ترقهم الفكرة، رغم أنّ وجباتهم مجّانية، رغم أنّها حلال خالية من لحم الخنزير.

فقط بسبب تجرؤ السلطات الرسمية عن إعلان رغبتها غير المباشرة في مَدْنّنَة أسلوب طعام الهاربين، اجتمع أعضاء المجلس الأعلى لإدارة شؤون الهاربين في أوروبا، خطَّطوا لمظاهرات دورية تعم أوروبا قاطبة، حدَّدوا يوم الجمعة بعد الصلاة موعداً للتظاهرة الأولى، سمّوها "جمعة الله أكبر منك يا أوروبا"!

خرج الهاربون من الجوامع أفواجاً، ارتدوا أقنعة الله أكبر، أخفوا وجوههم بالأخضر والأبيض والأسود، حملوا معهم صحون الحمص والفول والفتّة وربطات الخبز التركي، غنّوا بصوتٍ مجلجلٍ: جنّة جنّة جنّة، والله يا وطنّا...
لوّحوا بأعلام ألمانيا وتركيا عالياً، رفعوا صورة المستشارة الألمانية والسلطان التركي، كما كانت عادتهم في رفع صور الرئيس وعلم الحزب.
نبر الأعضاء الهاربون بصوتٍ واحد: بالروح والدم نفديك ماما ميركل.
ردَّد الأنصار الهاربون: ماما ميركل، نحن لا نأكل لحم الخنزيرالخَسِيس.

تظاهروا وأضربوا عن الطعام في ذاك اليوم، هَلَّلوا وسَبَّحوا وَكَبَّروا، تعانقوا من شدة حماسهم وهلعهم وجوعهم، تبادلوا القُبَل، صَوَّروا أنفسهم وهم يرفعون أصابعهم بإشارات غربية غير مفهومة، لَعَلَّهم اعتقدوا أنَّها دليل وتعبير عن قدراتهم الاندماجية في المجتمع. حدث كل هذا على أنغام أغنية الراحل عبد الهارب: الهاربون حائرون، يفكرون، يتساءلون في جنون!

ما أن أزكت رائحة الطبخ القادمة من مطبخ المدينة أنوفهم حتى تَضامّوا وقرؤوا مطلبهم كأنَّهم على خَشبةِ مَسرح: لماذا لا تتركونا نطبخ أكلاتنا الباكستانية والهندية والأفغانية والصومالية والعربية بجانب أسِرَّتنا؟ لماذا لا تتركونا نأكل حتى التعب؟ لماذا لا تتركونا نُغمِّس الخبزَ بالمرق؟ لماذا لا تتركونا ننام على أنغام روائح الطبخ؟

آن وصلوا إلى مطعم وجبات الغداء المَجَّانيّة كان الجوع قد هدَّهم، فجأةً اِنْتَهت المظاهرة وطقوس الإضراب بقدرة قادر، لكن بعاصفةٍ من التَّهليل والتَّكْبير والتَّصفيق والتَّصْفِير وتَحليل اللحوم.
قال مراقب: تجري الثورة في دورتهم الدموية الصغرى والكبرى كالنار، لدرجة أنّهم يعتقدون أنّ البطون المُدّورة، المؤخرات الهابطة، وبقايا الأطعمة العالقة في الجوارب واللحى من ميزات الثوار!

قال طبَّاخ بنزق: ما الأمر معكم يا الثوار الهاربين؟ لا نرى، لا نسمع ولا نقرأ إلا بطاقات شكرٍ وكلمات إعجاب للمستشارة، ماذا عني، ماذا عنهم!؟ من يطبخ لكم؟ السيدة ميركل، السلطان العُثْمانيّ، أم نحن؟ كل من يعمل في هذا البلد يساهم في تقديم العطايا لكم، كل عامل في هذا البلد يدفع قسماً من دخله الشهري كضرائب للتعاضُد الاِجتماعي معكم! ثم أردف: عليكم يا أبطال تجاوز عبادة الفرد وتقديسه، عبادته كفر.

جمجمت عاملة في المطبخ: يجب على الأئِمَّة والشيوخ المعنيين في كل بلدان العالم أن يفتحوا أبواب الجوامع-المساجد في وجوه الهاربين، لإيوائهم وإطعامهم والعناية بشؤونهم، طالما أنّ طعامنا لا يرضيهم!

همس عامل التنظيفات: لماذا لا تُستخدم صالات وردهات الجوامع في الفترات الزمنية الفاصلة بين الصلوات بهدف ممارسة الرياضة والرقص والهوايات الأخرى مثل الطبخ والنفخ؟

قالت عجوز مُحافِظة تناولت طعامها هناك تَوّاً: كم جميل لو يتوقَّف الهاربون الذكور عن تَقْبيل الخُدود والأكتاف والأُنُوف عندما يلتقون أو يتظاهرون!

هجس زوجها في الآن نفسه: صحيح أنَّ الوقاحة ضعف والتهذيب قوة. مَا طار هارب فَارتَفَــع، إلا كما طار وقعْ.

قال مدير المطعم ساخراً: ما للهاربين في حَيْص بَيْص؟ لعلّ الحكومة هي وحدها من يتحمَّل مسؤُوليَّة هذه البَلْبَلَة.لعل الشخص الذي يستحق الوصول إلى بلد آمن لم يصل بعد!

قال طالب من معهد الفيزياء: كيف نُفهمهم بأنَّ الأوطان لا تُبنى بلعن الأَرْوَاح، ولا الثورات بالتَفْجيرات والتَّكْبيرِات، كيف نشرح لهم أثر الفراشة، كيف نشرح لهم أنَّ ضربات أجنحة الصراصير وأقدام الـجُرْذَان في ألمانيا مثلاً لن تَتَسبَّب بحدوث إعصارٍ في بلد ما، في سوريا مثلاً؟

قال طالب من كلية الفلسفة: قام الفلاسفة بتفسير العالم بطرقٍ مختلفة. ولأنّ القضية الأساسية تكمن في تغييره، لذا وحدهم الثوار الهاربون من مظاهرات الحرية والكرامة من تصدّى لهذه المهمة الخالدة. مظاهرات "الله أكبر" الفقيرة، لن تطعمكم خبزاً، بل عزلة وخواء. إنَّه زمن التلوث البصري والسمعي.

أعاد سياسيّ عتيق من الحزب الاشتراكي ما قاله ريتشارد كارل فرايهر فون فايتسكر، رئيس سابق لجمهورية ألمانيا الاتحادية: إنّ قيمة كل يورو ننفقه في الأوطان الأصلية للهاربين عموماً، أعلى بكثير من قيمته عندما يتوجَّب علينا أن نصرفه هنا في ألمانيا، حالما يصل الهاربون إلينا.

ردَّدت امرأة شابة من حزب البديل الشعبوي: حل مشكلة الهاربين يكمن في المناطق المُتَضَرِّرة، لا في الوصول الانتهازي لأغلبيتهم إلى أوروبا، الأغلبية التي كانت بفعل جهلها المعرفيّ والثَّقافيّ من أسباب تخلف أوطانها. الأوطان لا تليق إلا بأهلها.

قال راهِبُ الكنيسة الكاثوليكيَّة: هناك عَوِيل وقتل وسرقة في العالم السفلي، كأنَّ الله الجبّار قد مات ومع ملائكته قد دُفِنَ! ليس للبطون آذان. أقول هذه الكلمات تضامناً مع الجوع التاريخي للهاربين. لكنني أريد أن أعرف، لماذا يعاني الهارب المسيحي من بطش الهارب المسلم؟

ردَّ عليه أحد الشيوخ الهاربين ممتعضاً: أيها الراهب، أعطني جريمة واحدة في هذه المجرة لا يتم نسبها للإسلام والمسلمين والهاربين؟ يا له من عالم قذر سيدفع ثمن ما يفعله بنا يوماً ما، نحن ربع سكان الكرة الأرضية من المسلمين الطيبين، سندهسكم بالشاحنات الثقيلة.

تدخَّلَ الشرطي في النقاش ممازحاً: جريمة في قطار الشرق السريع، يا سيدي الهارب، للكاتبة أغاثا كريستي، هذه الجريمة مثلاً لم تُنسب للإسلام والمسلمين.

تمتم مثقف حيادي: لن تستطيع أية قوة في الكون مهما عَظُمَتْ العمل على عرقلة وإيقاف عملية تبلور نشوء مجتمعات جديدة وإعادة هيكلة مجتمعات قديمة.

ختم المراقب تعليقات المتفرجين واندهاشهم بقوله: في المَجَازِر الألمانية، ومفردها مَجْزَرة، لا يوجد طاحونة للحم الخِنْزير وأخرى للحم البقر وثالثة للحم العجل. هناك يوجد كما أعتقد طاحونة واحدة متعددة الاستخدامات. ثم أضاف: عندما يتفق الناس على فكرةٍ واحدة فاعلموا أنّ الجميع على خطأ. جميل وصحي أن يكون للواحد منا رأي مغاير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية - الشاعرة سنية مدوري- مع السيد التوي والشاذلي ف


.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال




.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف


.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج