الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسطين في زمن الكورونا

ناجح شاهين

2020 / 3 / 12
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


كأنما جب الفيروس ما عداه من هموم. هكذا اختفت على نحو شبه كامل الأحاديث المتصلة بصفقة القرن ويوم المرأة العالمي وهموم الاقتصاد والتعليم ومعاناة قلنديا وجهاد من يجاهد في سوريا وليبيا والعراق، ناهيك عن تراجع الحملة العجيبة ضد الصين التي ترافقت مع فكرة العقاب الرباني الموجه إليها على شكل فيروس كورونا بالذات. أصبح كورونا فجأة هماً محلياً خالصاً، واختفى الكلام كله عن كورونا الصين كأنه لم يكن منذ أيام أو أسابيع جندياً مخلصاً من جنود الله مسلط على عنق الصين وحدها دون غيرها.
فجأة تحرك الهم "الأنطولوجي" المتصل بالحياة والموت في قلوب الجميع، الكبار قبل الصغار. "اكتشف" الناس فجأة أن هناك موتاً أو شبحاً للموت اسمه كورونا يخيم في سماء المدن الإسمنتية من قبيل رام الله وبيت لحم ونابلس والخليل. بالطبع هناك من يشتم رائحة العدو الغادر في ملابس القادمين من عمان أو القاهرة أو أوروبا...الخ. فجأة ظهر الموت وحشاً يتجول في شوارع المدينة الخالية تقريباً من السكان. يتفرس الناس بحذر شديد في وجوه بعضهم بعضاً، يحتفظون بشيء من المسافة لأول مرة في تاريخهم. حتى الشبان الصغار لا يحاولون الارتطام بأجساد الفتيات الماشيات بالمقدار نفسه من الحذر قرب دوار الساعة أو بوظة ركب. "الروح" أغلى من كل شيء، ولا شك أن غريزة البقاء تنتصر على غريزة الجنس. بإمكان الشهوات جميعاً أن تنتظر ريثما نتأكد من أن وحش الكورونا قد ابتعد عن المدينة.
لكن أحداً في المدينة لا يملك الخبر اليقين: ترى متى يرحل كورونا ونعود سيرتنا الأولى "نتسلى" بتكرار القصص التي سبق لنا تكرارها إلى ما لا نهاية؟ طعم يذكر بمنع التجول في أيام الانتفاضة، والإضرابات وإغلاق المدن، إلا أنه هذه المرة منع ذاتي للتجول. الناس فجأة تكتشف رعب الموت كما لو أن هذا الوحش الذي يقهر بعل الكنعاني كل عام لم يكن له وجود في ألف شكل وشكل. كأنما كان الإنسان خالداً لا محالة لولا هذا الزائر "الصيني" الكريه.
يرمق الناس الفتاة الشقراء التي تمسك بيدها خسة وباليد الأخرى سيجارة بيضاء بالكثير من عدم الارتياح ويبتعدون عنها بسرعة. لا أحد يريد أن يقترب منها ويحظى بمخاطبتها بالإنجليزية الأثيرة على القلوب، ويمتع نفسه بمتع متعددة في وقت واحد: يتحدث الإنجليزية مع امرأة شقراء أوروبية من ذلك الجنس الذي يسحرنا بسهولة نسائه المفترضة، ناهيك عن تفوقه العلمي والاقتصادي والسياسي. متعة فوق متعة فوق متعة، طبقات من المتع التي لم يعد أحد يريدها خوفاً من أن يكون كورونا مختبئاً في ثنية من ثناياها.
ينسى الناس على نحو عجيب أن انتخابات إسرائيلية "هامة وحاسمة" قد وقعت منذ أيام، وأن ملك إسرائيل بنيامين (ابن اليمين، ولكل من اسمه نصيب) ربما يتمكن هذه المرة من تشكيل الحكومة "المتطرفة" التي ستقوم بخطوات رهيبة لاجتثاث ما تبقى من شعب فلسطين وامتصاص ما تبقى من مياهها والاستيلاء على أغوارها وجبالها وأريافها في غفلة من أمة عربية مفترضة ما عادت قادرة على مواجهة أي هم من الهموم، وإن يكن فيروساً صغيراً بحجم الكورونا.
يعلم الناس جميعاً أن وزارة الصحة الفلسطينية مثلها مثل وزارات الصحة في العالم كله لا تمتلك أية إجابة جدية على مقدار الخطر الذي يشكله الفيروس على الفرد. الأرقام الإحصائية لا تسمن ولا تغني من جوع. هناك نسبة ضئيلة من الإصابات تتطور باتجاه الموت، لكن ذلك قد يكون مفيداً لمنظمة الصحة العالمية أو دائرة الأبحاث في جامعة جون هوبكينز في بالتيمور شمال أمريكا، أما الفرد الذي يقيم في الأمعري أو حلحول أو شويكة، فإنه لا يعلم إن كانت النسبة الضئيلة ستشمله شخصيا أم لا. لذلك لا تفيد الأرقام في طمأنة الناس الأكثر انكشافاً والأقل قدرة على حماية أنفسهم من العدوى. لذلك فيما نحسب انتشرت ملايين الفيديوهات والرسائل التي تتحدث عن الأغذية التي تقي والإغذية التي تحمي والأغذية التي تشفي...الخ. وهناك من ناحية أخرى رسائل من قبيل: "انشري يا غالية، هذا الدعاء يحمي من الأمراض والأسقام كلها." يتناقل الناس الذين سبق لهم أن شاهدوا الراحل صدام حسين على القمر وحلموا به وهو يدخل الخليل ونابلس وجنين ورام الله...الخ يتناقلون الأدعية المأثورة القادمة من الاتجاهات كلها. في هذا السياق وصلني مثل غيري أدعية منوعة بما في ذلك أدعية تستعين بسيدنا الحسين وسيدنا علي وستنا زينب ...الخ لكنني لم أعلم لسوء الحظ شيئاً عن الصلوات التي يتناقلها أبناء شعبنا من الديانة المسيحية في السياق ذاته.
البعض يحاول أن يحتفظ برباطة جأشه ليروي طرفاً ذات نكهة "تتظاهر بالشجاعة" من قبيل إنه إذا كانت القيامة ستقوم، فإن من غير المعقول أن تقوم وباب التوبة مقفل بسبب إقفال الكعبة والمهد والقيامة والأقصى ودور العبادة المختلفة. لكن هذا النوع من الطرف لا يتم تناقله على نطاق واسع، أو هذا على الأقل الانطباع الذي وقعنا تحته.
رئيس الوزراء في السلطة الفلسطينية أوضح بأن الأرقام عن الإصابات الحالية ليست نهاية المطاف، لأن علينا أن ننتظر حتى تنقضي مدة حضانة المرض (أسبوعان بالتمام والكمال) من أجل أن يتضح كم شخص أصيب في سياق ما حدث في بيت لحم. بالطبع ليس هناك أي ضمان من أن ينتقل المرض بطرق أخرى داخلية غير "الاستيراد" من الوافدين والغرباء. يقول بائع "البسطة" دون أن يعي أن ذلك يرعب الناس المرعوبين أصلاً: "ربما لن نجد الخضرة في وقت قريب." أحببت أن أكون ظريفاً فقلت له: "مش مشكلة، المهم أن نجد الفواكة." فنظر إلي شزراً وسكت، أما جمهور المتسوقين فنظروا إلي من غير مودة، لسان حالهم يقول: "بترش على الموت سكر."
بعد أن بدأت عمليات إغلاق المقاهي والكافي شوبات والمطاعم التي يعشقها الناس في فلسطين شأنهم شأن إخوانهم في الأردن ولبنان ومصر...الخ بدا أن نقلة نوعية قد تعرض لها الوعي الشعبي مستشعراً خطراً داهماً وشيكاً. كان الفيروس يحوم هناك في مكان ما، ولكنه بدأ يحوم حولنا في جونا وفي تنفس جيراننا والناس الذين يمشون في الشوارع. لأول مرة يحس الناس أن العدو فعلاً قد اخترق أسوار المدنية. لم يغب عن بالي وأنا أسير على قدمي في شارع الطيرة المزدحم بالكافيهات المغلقة أن السيارات مغلقة الشبابيك على الرغم من ارتفاع الحرارة النسبي. ترى هل يخشى الناس أن يتسرب الفيروس من الشبابيك؟
ليس في مدينتنا من هو قلق كثيراً فيما يتصل بحسابات مثل حسابات ميشيل تشوسودوفسكي الذي يذكرنا بأن فيروسات معينة في الماضي قد ضخمت كثيراً بغرض ترويج لقاحات وأدوية تنتجها شركات أمريكية. لسنا سوقاً مهمة ولن نشتري شيئاً. في أغلب الأحوال يمكن أن نتلقى المطاعيم إن وجدت على شكل تبرعات أو هبات من هنا وهناك. اقتصادياً لسنا الصين الشعبية لنتوهم أن أحداً مهتم بضرب اقتصادنا عن طريق رعب المرض. نحن اقتصاد يعتمد على المساعدات الخارجية التي تأتينا على شكل فتات يتساقط من موائد دول كبيرة وغنية لا يساوي ما تدفعه لنا أكثر من مصروف جيب لطفل في الروضة. لذلك ليس انهماكنا بتكذيب جدية خطر الكورونا حاراً مثلما هو الحال مع بعض مفكري اليسار أو المؤسسات الإعلامية الصينية. في الأحوال كلها نحن نميل إلى نظرية المؤامرة، ولكن ذلك يأتي في باب التسلية وإزجاء الوقت لا أكثر، لأننا لن نفعل أي شيء يترتب على مقولاتنا عن المؤامرة. فقط سنزجي الوقت الطويل الذي نحياه بدون مقاهي بانتظار أن نعود إليها.
دبت الحياة في النشاط الجمعي للفصائل والمنظمات الأهلية على السواء. جمعية الإغاثة الطبية الفلسطينية التي يرأسها مصطفى البرغوثي وزعت منشورات حول كورونا وسبل الوقاية منه، كما علقت ملصقاً كبيراً على الجدران في أماكن متعددة وسط مدينة رام الله يحمل المحتوى ذاته. الشبيبة الفتحاوية استنفرت لمواجهة الفيروس. وقالت الشبيبة إن هماً وطنياً كبيراً لا بد من مواجهته. كذلك تم استنفار دائرة السير والمرور من أجل تعقيم المركبات وتخفيف الازدحام في مجمعات السفر بين المدن.
في هذا السياق يتابع المواطنون على نطاق واسع ما يجري بشيء من القلق والخوف والفضول. تتوقف الاهتمامات الحياتية المختلفة أو تتأجل بانتظار مرور الحالة الراهنة. يبدو وكأن "الحياة" العادية قد اختفت مؤقتاً، لكن ذلك فيما يقول البعض اختفاء زائف. لا بد أن الفيروس سيختفي قريباً مثل الفيروسات المختلفة التي ظهرت واختفت. وسوف نعود لمواجهة الحياة الفعلية العادية بخيرها وشرها. لذلك يجدر بنا أن لا ننسى في سياق انغماسنا في "عالم كورونا" أن هناك أكوام من المشاكل والتحديات التي تواجه فلسطين وعلى رأسها الأخطار الأشد بطشاً التي تمثلها الخطط الصهيو/أمريكية التي تتصاعد وحشيتها يوماً بعد يوم وتتجه بتسارع مخيف نحو تقويض ما تبقى من حقوق فلسطينية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آثار القصف الإسرائيلي على بلدة عيترون جنوبي لبنان


.. ما طبيعة القاعدة العسكرية التي استهدفت في محافظة بابل العراق




.. اللحظات الأولى بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلا في حي السلط


.. مصادر أمنية عراقية: 3 جرحى في قصف استهدف مواقع للحشد الشعبي




.. شهداء ومفقودون في قصف إسرائيلي دمر منزلا شمال غربي غزة