الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديوان الإسبرطي يستذكر الاحتلالين العثماني والفرنسي

عدنان حسين أحمد

2020 / 3 / 12
الادب والفن


تعتمد الرواية التاريخية، في الأعمّ الأغلب، على السرد المتسلسل لكنّ رواية "الديوان الإسبرطي" الصادرة عن "دار ميم للنشر" في الجزائر للروائي عبدالوهاب عيساوي تُراهن على السرد المتناوب الذي تقوم به خمس شخصيات رئيسة وهي: "ديبون، كافيار، ابن ميار، حمّة السّلاّوي ودُوجة"، كما تنطوي الرواية على أكثر من 30 شخصية ثانوية تؤدي أدوارها المؤازرة للشخصيات المحورية وتؤثث الفراغات التي قد تُترَك بين تضاعيف المتن السردي.
تغطي الرواية الحقبة الزمنية المحصورة بين عامي 1815 و 1833. أما المكان فيمتد من الجزائر إلى باريس وبعض المدن والموانئ الفرنسية وينتهي بإستانبول، عاصمة الدولة العثمانية آنذاك. تأخذ الرواية طابع اليوميات أو المذكّرات الشخصية، ولو شئنا الدقة لقلنا "الاستذكارات"، فالرواة الخمسة يستذكرون ما مرّ بهم من أحداث قد تبدو ضئيلة لكنها في واقع الحال تنطوي على الكثير من التفاصيل الدقيقة التي ترصد طبيعة الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية من دون أن تهمل الجوانب السياسية في المثلث التركي الجزائري الفرنسي، ولعل أهمّ ما في هذه التفاصيل هو وضع الأديان السماوية الثلاث تحت المجهر، ودراسة الطبائع الاجتماعية للإنسان التركي والفرنسي والجزائري عبر ثنائية القوة والضعف، التحرّر والاستعباد، الأوهام والحقائق الدامغة. ثمة تفاصيل أخرى ترصد طبيعة الإنسان الجزائري أو المغاربي العربي بشكل عام من خلال عقليته الشفاهية التي لا تُحبّ التدوين على غرار الإنسان الأوروبي أو التركي بدرجة أقل هي التي منحت النص السردي بُعدًا معرفيًا شديد الإغراء ساهم إلى حدٍ كبير في تسريع الإيقاع السردي المتباطئ وانتشال الرواية من سكونيتها أو حركتها الدائرية التي تتكرر خمس مرات في القسم الواحد من أقسام الرواية الخمسة.
تحتاج هذه الرواية إلى صبر طويل لمواصلة قراءتها من قبل الكثير من القرّاء الذين يبحثون عن أحداث متسارعة لا توفّرها رواية "الديوان الإسبرطي" التي تلتف حول نفسها بحلقة دائرية قبل أن تندفع للأمام لتعاود الكَرّة من جديد ملبّية طلب الأصوات المتعددة التي تروي استذكاراتها بطريقة دائرية لا يشعر القارئ باندفاعها إلاّ لماما.
اختار عبدالوهاب عيساوي شخصيتين فرنسيتين وهما ديبون، مراسل الحملة عام 1830، وهو شخص مناصر للقضية الجزائرية، ولا يجد حرجًا في تعرية الممارسات القمعية للاستعمار الفرنسي، وينشر مقالاته في صحيفة "لوسيمافور دو مرساي".لعل أبرز ما جاء في يومياته هو حديثه عن بورمون الذي اختاره الملك لقيادة الحملة الفرنسية رغم أنّ الكثيرين يؤاخذونه على خيانته القديمة في واترلو، ولن تشفع له كل المعارك التي خاضها، والتضحية بولديه اللذين قُتلا في الجزائر، وعندما سقط الملك في باريس لم يجد بورمون أمامه سوى المنفى الإنجليزي حيث ينتظره الملك المعزول. أما الشخصية الفرنسية الثانية فهو كافيار الذي كان وزيرًا في حملة نابليون، وأسيرًا سابقًا لدى الأتراك فلاغرابة أن يحقد على الأتراك والجزائريين معًا. وثمة وصف دقيق لطرق التعذيب التي تعرّض لها بشكل فردي وجماعي سواء في حمل الصخور الثقيلة لمسافات طويلة أو تفريغ قفاف الملح من السفينة إلى صناديق مهيأة على رصيف الميناء أو النوم الجماعي لكل ثلاثين شخصًا في غرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها تسعة أمتار مربعة. تختصر هذه الشخصية الفرنسية أشياء كثيرة في الرواية مثل الحديث عن القيود التي وضعت على يهود الجزائر، أو وصف المعالم الخارجية للقبائل، أو الحديث عن بوتان، الجاسوس الذي أرسله نابليون لكي يكتب تقاريره السرية عن الجزائر، ويرسم خرائطها التي تُعينه في أثناء الحملة العسكرية. باختصار شديد، هذا الرجل الذي دخل الجزائر مغلولاً وعاد إليها من جديد لكي يضع القيود في أرجل الأتراك والمُور معًا. وفي مقابل الشخصيتين الفرنسيتين يقدِّم لنا عبدالوهاب عيساوي ثلاث شخصيات جزائرية وهي ابن ميار، وحمّة السّلاوي ودُوجة، بائعة الهوى التي ستتوب وتكرّس حياتها للسّلاوي. يحتل ابن ميار مناصب متعددة لكننا سنكتفي بمنصب كاتب الديوان الذي يدوِّن فيه شكاوى المواطنين ويرفعها إلى المسؤولين الجزائريين والفرنسيين لكنه يؤكد بين آونة وأخرى بأنّ الجزائر لن تكون إلاّ لأهلها. ومن بين الأشياء الكثيرة التي يرويها قصة نهب المساجد وتدميرها مثل مسجد "السيدة" الذي سوّوه بالأرض، وجامع كتشاوة الذي حوّلوه إلى كنيسة. وحينما تصل شكايته الأولى إلى الملك تأتي اللجنة لكنه لم يجنِ منها سوى النفي والترحيل إلى إستانبول هو وزوجته لالّة سعدية تاركين دُوجة عند لالّة زهرة التي تنتظر عودة حمّة السّلاّوي على أحرّ من الجمر. يمكن وصف الشخصية الرابعة حمّة السّلاّوي بأنه جزائري عربي مُحب لوطنه، وكاره للخونة والمتآمرين، وسوف يقتل المِزوار لأنه اغتصب دُوجة واعتدى على الكثير من فتيات "المحروسة" الاسم الآخر للجزائر، وبسبب هذه "الجريمة" يجد السّلاوى نفسه مضطرًا للاختباء بعد أن أصيب بطلق ناري في ساقه، وهو يفكر جديًا بمغادرة "المحروسة" رفقة دُوجة والإلتحاق بجيش الأمير عبد القادر.
تروي دُوجة وهي الشخصية الخامسة قصتها أيضًا فنُفجَع بموت والديها وشقيقها الأوحد منصور، ثم يدفعها الفقر المُدقع لتجد نفسها في حي البغاء. وبما أنها جميلة فإنها تقع تحت رحمة الأعين المتربصة بها فتنتقل من بيت تاجر لآخر لكنها تصبح في خاتمة المطاف مطربة في فرقة لالّة مريم التي تكلّفها بإحياء حفلة خاصة لأحد السادة الأتراك وتنجح في مهمتها لأن خامة صوتها جميلة لكن المِزوار كان يتربص بها الدوائر فقد أجبرها على الذهاب لأحد الأغاوات وطلب منها تنفيذ رغباته وحينما أخذ منها وطره هربت من المنزل لكنها وقعت بيد المزاور ثانية حيث أخذ منها كل النقود التي كانت بحوزتها لكنه لم ينجُ من عقاب السّلاوي الذي قتله طعنًا بالسكين وهرب ليختبئ بعيدًا عن الأنظار. وقبل رحيل صديقه الحميم ابن ميار سحبت زوجته قلادة ذهب تحمل مصحفًا صغيرًا وعلّقتها في عنق دُوجة التي شعرت لحظتها إن الله الذي اختار أمها إلى جواره قد أحاطها بأمهات كثيرات مثل لالّة سعدية وزهرة وغيرهن من النساء اللواتي طوّقنها بالرعاية والمحبة والحنان.
يبدو الكاتب الشاب عبدالوهاب عيساوي (1985) أكثر الروائيين الجزائريين أمانة للحوادث التاريخية التي وقعت بين معركة واترلو في 18 يونيو / حزيران 1815 والسنوات الثلاث التي أعقبت الحملة الفرنسية على الجزائر عام 1830،ولعل الميزة الأكثر أهمية لهذه الرواية هو حيوية هذه الشخصيات ومصداقيتها إذ نجح عيساوي في إحياء التاريخ واستنطاق قصصه التي ظلت مركونة على أرفف المكتبات لأكثر من قرنين من الزمان.
تلامس الثيمات الفرعية للرواية أحداثًا مؤلمة تهزّ المشاعر الإنسانية حينما يفرّق جنود الاحتلال الفرنسي بين اليولداش الأتراك وزوجاتهم الجزائريات اللواتي خلّفوهنّ في الجزائر رغم أنّ الإنكشاريين هم محتلون أيضًا لكنهم يستحقون تسوية إنسانية عادلة من أجل زوجاتهم وأبنائهم الذين وجدوا أنفسهم في ظروف عصيبة لا يُحسَدون عليها.
تفحص الرواية في مواضع متعددة شخصية نابليون بونابرت وتصفه "بالمجنون الذي يركض وراء أخلام لا حدود لها" فعلى الرغم من خبرته الحربية إلاّ أنه قاد مقاتليه إلى كوارث كثيرة أفضت به إلى المنفى والعزلة الانفرادية.
أصدر عبد الوهاب عيساوي ثلاثة كتب وهي المجموعة القصصية "حقول الصفصاف" وروايتي "سييرا دي مويتري" و "الدوائر والأبواب".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح


.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال




.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص


.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..




.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما