الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثمن الاختيار

حوا بطواش
كاتبة

(Hawa Batwash)

2020 / 3 / 12
الادب والفن


* كلام ع الماشي

عندما تبعث الشمس أشعتها الأولى معلنة قدوم الصباح، أو عندما يتبدّد آخر شعاع من نور النهار ليفسح المجال لهبوط المساء، يخرج أهالي قريتي، رجالا ونساءً، إلى الشوارع والأزقة لممارسة رياضة المشي. أزواجًا، ثلاثيات، رباعيات أو حتى أفرادًا، تجد النساء والرجال من مختلف الأعمار والأجيال يمشون على حواف الشوارع، إلى جانب السّيارات والدراجات الهوائية والنارية والكهربائية التي تملأ الشوارع بلا توقف.
أقول قريتي رغم أنني تركتُها مع أهلي إلى مدينة طبريا منذ ما يقارب الثلاثين عامًا، منذ كنتُ في الثانية عشرة من العمر، ذلك أنني قضيتُ فيها أجمل أيام عمري، هي سنوات طفولتي الجميلة المفعمة بالبراءة والشغب والشغف. وبقيتُ أزورها بشكل دائم، أزور أقاربي وقريباتي وصديقاتي دون انقطاع، خاصة أنها لا تبعد عن مدينتي أكثر من عشر دقائق بالسيارة، حافظتُ على روابط المحبة والصداقة وبقيت القرية نابضة في قلبي والذكريات راسخة في ذهني.
في الآونة الأخيرة، بدأنا أنا وبعض صديقاتي، من القرية ومن المدينة، بممارسة رياضة المشي، فنمشي صباحًا أو مساءً في شوارع القرية، أو حقولها، وأحيانا، أحبّ أن أبتعد عن ضجة وزحمة شوارع القرية في المساء، فنمشي على الممشى الجميل الذي على طول شواطئ بحيرة طبريا.
وردة كانت إحدى أقدم وأقرب تلك الصديقات، وربما أحبّها على نفسي. كنتُ أمشي معها مرة في الأسبوع، كل يوم جمعة صباحًا، على ممشى شواطئ بحيرة طبريا فنتبادل الكلام عن كل ما يشغل بالنا وتفكيرنا في حياتنا اليومية، عن الكتب التي نقرأها، الأفلام والمسلسلات التي نشاهدها الخ...
بحيرة طبريا ممتلئة الآن كما لم أرها منذ سنوات، بعد الأمطار الغزيرة التي هطلت خلال الشتاء. أشعّة الشمس الصّباحية تتراقص على صفحتها الصامتة وريحٌ منعشة، معتدلة البرودة، تهبّ على وجهي، تتطاير معها خصلات شعري الذهبية الطويلة، تداعب وجنتيّ برقة ونعومة.
«واووو...» قالت وردة مبهورة بمنظر مياه البحيرة الغامرة التي غطّت مساحة كبيرة من الشاطئ الذي كنا نهبط إليه أحيانا، قبل شهرين فقط، في طريق عودتنا، لممارسة اليوغا أو بعض تمارين التمدّد في نهاية مشينا.
«أليس هذا مدهشًا؟» قلتُ لها.
«واوووو!» هتفت ثانيةً. «ما هذا؟!»
خلال مشينا، أحسستُ بموجة الفرح التي تغمرتها، وقد سرّني ذلك، فنادرًا ما كنتُ أراها على هذه اللهفة والاشتياق، خاصة في العامين الأخيرين.
«ماذا في جعبتك اليوم من الأخبار؟» سألت وردة.
فأخبرتها عن المقابلة التي شاهدتها مؤخّرا على اليوتيوب، مع الفنان العالمي عمر الشريف، والتي أجريت معه في سنواته الأخيرة قبل وفاته، حيث قال فيها إن العالمية أعطته الكثير وأخذت منه الكثير أيضا. أحيانا يفكّر بينه وبين نفسه: هل كانت تستحق ذلك؟؟
كان بإمكانه أن يبقى في بلده مصر التي يحبها، فقد كان فيها نجمًا ساطعًا، يقدّم أفلامًا محلية، يتزوّج ويستقرّ ويكوّن أسرة أكبر، حيث من المعروف أنه تزوّج من سيدة الشاشة العربية الفنانة فاتن حمامة وله ابن وحيد منها اسمه طارق، وقال في المقابلة إنه كان يتمنّى أن يكون له المزيد من الأولاد والبنات، وربما لو لم ينطلق إلى العالمية كان زواجهما قد استمرّ أكثر من ذلك.
«كم من الزمن دام زواجهما؟» سألت وردة.
«خمسة عشر عامًا في الغربة والتنقل من بلد إلى آخر، وكانت فاتن حمامة تدعمه في مسيرته الفنية كثيرا.»
«ولكن العالمية شيءٌ جميلٌ ونادر، فهو الفنان العربي الوحيد الذي اشتهر بهذه الطريقة على نطاق واسع. ألم يحس بروعة ذلك؟»
«قال في المقابلة إن ما يهمّه أن يعرفه ويحبّه أبناء بلده ووطنه، فماذا يهمّه إن كان الصينيون أو الفرنسيون أو الإيطاليون يعرفونه؟ ولكن من جهة أخرى، العالمية جعلته يلتقي بشخصيات كثيرة مهمة في العالم.»
أسرعنا الخطى أكثر في طريق عودتنا، فيما الشمس بدأت تعلو في كبد السماء، والحرارة تتغلغل في دواخلنا.
«تعلمين؟» قالت وردة. «يذكّرني هذا بحالة أمينة، بطلة الرواية التي أقرأها في هذه الأيام، مترو حلب* للكاتبة السورية مها حسن. أمينة كانت ممثلة مسرحية في بلدها سوريا وتحب المسرح حبّا جعلها تترك بلدها لتسافر إلى فرنسا، متخلّية عن كل شيء، كل شيء تماما: عن زوجها وحبيبها، أهلها وأصدقائها وحتى ابنتها الطفلة الصغيرة... من أجل الشهرة، حين جاءتها الفرصة المباغتة لتسافر، فأصبحت فنانة مشهورة في فرنسا. فهل كانت الشهرة تستحق ذلك؟؟»
«واووو!» دُهشت. «كيف استطاعت أن تفعل ذلك؟ وماذا مع الطفلة؟»
«الطفلة تربّت بطريقة لم تتوقعها أمينة على الإطلاق.» قالت وردة. «كانت واثقة أن وليد، زوجها ووالد الطفلة، سيعتني بها جيّدا. لكن وليد كان يحتاج إلى زوجته أمينة كي يقدّمها إلى أهله الذين وعدهم بذلك، حيث كان قد تزوجها دون علمهم. فاقترح والد أمينة الحل بأن يتزوج وليد من هدهد، أخت أمينة، ويقدّمها إلى أهله على أنها أمينة وتربي الطفلة كأنها أمّها. وذلك ما حدث فعلا. فقد وافقت هدهد على ذلك، تخلّت عن كل مشاريعها المستقبلية مع الرجل الذي كانت تحبه ويحبها، تقمّصت شخصية أختها وضحّت بنفسها من أجل تلك الطفلة الصغيرة، ابنة أختها، التي لا ذنب لها، فتربّت على يد خالتها على أنها أمها حتى اندلعت الأحداث الدموية في سورية فبعثوا بها إلى أمينة في فرنسا على أنها خالتها التي كانت مريضة وتريد رؤيتها قبل أن تموت.»
«وهل كانت مريضة؟»
«نعم. فقد اتّصلت بأختها هدهد بعد طول انقطاع وأخبرتها أنها مريضة بالسرطان ولم يبقَ لها الكثير من الأيام وتوسّلت إليها كي تلبّي لها طلبها الأخير بأن ترى ابنتها.»
«لكل شيء ثمنه، يا عزيزتي.» قلتُ لها. «الحياة جميلة، كريمة ومثيرة، تفتح لنا أبوابًا عديدة فنختار منها ما نشاء. نحن لا نستطيع أن نملك كل شيء. بل نختار شيئا ونتخلّى عن أشياء أخرى وندفع الثمن.»
«أستغرب أحيانا: كيف نختار؟ هل نختار ما يُملي علينا قلبنا؟ أم عقلنا؟ أم نختار ما يُفرض علينا؟ أمينة اختارت الشهرة على حساب كل شيء. أصبحت فنانة مشهورة وحقّقت ما أرادت من حلم الشهرة، لكن السؤال هو: هل كانت سعيدة؟ لقد عاشت طوال حياتها في الغربة، بعيدًا عن كل ما ألفته وأحبته، فهل عوّضتها الشهرة عن كل ذلك؟ وكيف تعاملت مع ظلمها لزوجها وابنتها الصغيرة؟!»
«لا شك أن ضميرها أنبّها طوال حياتها، فقد كان طلبها الأخير هو أن ترى ابنتها قبل أن تموت.»
«ولا تنسي أختها أيضا، هدهد، التي تخلّت عن كل شيء من أجل ابنة أختها الصغيرة، بعكس أمينة تماما. كم هما مختلفتان.»
قلتُ بعد دقائق من الصمت: «أفكّر أحيانا كم هو مدهشٌ هذا الاختلاف وهذه الفروق الشاسعة بين الناس، حتى بين الإخوة والأخوات. لكن أمينة ربما لم تتصوّر تداعيات ذلك على أختها أيضا.»
«نعم، صحيح.» قالت وردة. «لم تتصوّرها على الإطلاق ولم تعرف أنها هي من ربّت ابنتها وأنها تزوجت زوجها من بعدها وهي تعرف تماما أنها لم تكن تطيقه بل وتحبّ رجلا آخر.»
وفجأة، أطلقت وردة آهة أليمة، وقالت: «الحياة ظالمة.»
أسرعتُ خطاي أكثر أستحثّها على لحاقي. «أظنّ أن الحياة بريئة منا ومن أخطائنا.» قلت معترضة على رأيها. «نحن من نقرّر ونختار، نظلم بعضنا البعض، حينا، ونظلم أنفسنا أحيانا أخرى. كان بإمكان هدهد أن تختار طريقا آخر، تختار حبيبها. لم يجبرها أحد على أن تقبل حل أبيها للمشكلة. ربما لو رفضت كان بإمكانهم إيجاد حل آخر أفضل من ذلك.»
أطبق علينا الصمت ومشينا كثيرا دون أي كلام، لكن عذوبة صوت الأمواج كان يبعث البهجة في النفس، حتى
اقتربنا من نهاية الممشى دون أن نصل إلى نهاية سلسلة أفكارنا. كنا نركن سيارتينا في موقف السيارات الذي يطلّ على البحيرة. وقفنا قرب الدرابزين الحديدية وتأملنا المنظر الجميل. لاحظتُ هدوء وردة وشرودها وقد تبدّد الفرح الذي كان يغشى وجهها وغادرتها لهفتها الأولى. كان من الواضح أنها تفكّر في حالها. هي أيضا ربما لو لم تقبل برأي والدتها في الزواج كانت حياتها اليوم قد اختلفت.
«حنان...» قالت فجأة، وصوتها ينمّ عن حيرتها.
«نعم؟»
«هل أنت سعيدة؟»
تنهّدتُ عميقا، وقلت لها خلال تفكيري: «السعادة، كما أراها، هي لحظات. أنا أقيسها هكذا، باللحظات.» استغرقتُ في تأمّل داخلي عميق، ثم أكملتُ: «نعم. هناك لحظات سعادة كثيرة في حياتي. ولكن، لا شيء يدوم، وهذا شيء طبيعي.»
«أنا نادمة.» قالت فجأة، ولم تجرؤ على النظر في عينيّ. «نادمة جدا على الكثير من اختياراتي.»
قلتُ متسائلة خلال تفكيري: «وبماذا ينفع الندم؟»
«لا أدري.» قالت. ثم تنهّدت عميقا، وكرّرت بصوت بالكاد يُسمع: «لا أدري.»
لم نضِف شيئا. وقفنا نتأمّل بحيرة طبريا، ننصتُ إلى موجاته الخافتة، تداعبها الريح الناعمة. لا ينفعنا الندم بشيء، فكّرتُ بيني وبين نفسي. علينا أن نحترم الطريق الذي اخترناه أو سِرنا عليه، فهو الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.
افترقنا بعد أن تواعدنا على اللقاء هنا مجدّدا الأسبوع القادم.

كفر كما/ الجليل الأسفل


...............................................................................................................................................................
• «مترو حلب»، مها حسن، دار التنوير للنشر، 2016.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جائزة العين الذهبية بمهرجان -كان- تذهب لأول مرة لفيلم مصري ?


.. بالطبل والزغاريد??.. الاستوديو اتملى بهجة وفرحة لأبطال فيلم




.. الفنان #علي_جاسم ضيف حلقة الليلة من #المجهول مع الاعلامي #رو


.. غير محظوظ لو شاهدت واحدا من هذه الأفلام #الصباح_مع_مها




.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف