الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وداعًا سليمان العطار، دون كيخوتي القرن الحادي والعشرين!

خالد سالم
أستاذ جامعي

(Khaled Salem)

2020 / 3 / 13
الادب والفن


‎"لكنها تدور يا ملوك الطوائف..."

د.خالد سالم
شهدت الفترة الأخيرة تساقط أفضل مترجمي الإسبانية إلى العربية، مترجمون أثروا المكتبة العربية بأمهات كتب لغة ثيربانتيس، مؤلف رواية دون كيخوتي، أكثر الكتب انشتارًا في العالم بعد الإنجيل. بالأمس ترجل آخرهم، سليمان العطار، أستاذ الأدب الأندلسي في جامعة القاهرة، المثقف الذي تمثل شخصية بطل هذه الرواية، دون كيخوتي نفسه، في صراعه من أجل التغيير وتحديث الخطاب الثقافي الذي كان يرى أن العالم الثالث، أو بعبارة آخرى العالم المتخلف، يترسخ فيه ألعن انواع العبودية، العبودية االتى تأسر الفرد وتكسر المجتمع، العبودية للأفكار الموروثة المحلية والموروثة المستوردة. ويلح على أن العبيد لا يبدعون ولا يخترعون بل يستهلكون إبداع غيرهم ومخترعاته على هيئة اطواق فى رقبتهم.
تتلمذ على أيدي أساتذته في الدراسات الأندلسية مثل عبد العزيز الأهواني ومحمود علي مكي، إلى جانب كبار المستعربين الإسبان في القرن العشرين. استنسخ فكرالأهواني وشخصيته وتصرفاته، لهذا استكمل مشروعه في ترجمة رواية دون كيخوتي. كان عالم الأندلسيات الدكتور محمود علي مكي يلح على أن العطار فيه من الأهواني الإنسان أكثر من أي شخص آخر من أساتذته. كان يتمثله في كرمه المادي والعلمي الذي لا حدود له فاستظل به حواريوه وكل من اقترب من فلكه.
عرفته من خلال ترجمته لرواية الكولمبي غابرييل غارثيا ماركيث "مائة عام من العزلة"، ومن حكايات الدكتور محمود علي مكي عنه وما نقله لي مستعربون إسبان وأصدقاء من تشيلي حيث عمل مديرًا للمركز الإسلامي في الثمانينات، ثم التقيته أول مرة في منتصف التسعينات إذ بادر بالاتصال بي فور وصوله ونسجنا صداقة جميلة يعلوها الفكر والحديث عن الأندلس، الحقل الذي كان يعشقه، وكان له فيه مغامرات فكرية وفلسفية لا تتسق مع الكثير من الأفكار السائدة. كان ذا خيال واسع وثري، لذا أعتقد أنه لو خصص مزيدًا من الوقت لكتابة الرواية لبرع فيها.
صدره الرحب وتسامحه الأندلسي جعلاه يجمع بين أشخاص متنافرين. تمتع بشخصية لا تبهرها الأحداث فمنظوره الفلسفي كان يسمح له بتقبل أكثرها قسوة على المستوى الفردي والجمعي. إلا أنه أسر لي ذات مرة في مدريد إن هذه الصلابة في شخصيته غزته جراء وفاة شقيقه الأكبر الذي كان يعمل ضابطًا في الجيش وشارك في حرب أكتوبر 1973. ثقافته الواسعة سمحت له برؤية الأمور من منظور رحب دون انفعال.
عرفته مقبلاً على الحياة بأبسط الموارد المادية، ما جعله ينفق ماله ووقته في اسعاد الآخرين. وفي هذا السياق تحضرني واقعة حكاها لي صديق مشترك إذ كانا يجلسان في منزله فطرق الباب شاب من العائلة أخبره أنه يريد أن يتزوج لكن ضيق ذات اليد يعطل المشروع، فما كان منه إلا أن أعطاه جزءًا من فرش منزله وأجهزته الكهربائية. الطرائف التي شهدتها في مدريد وفي القاهرة بعد العودة كثيرة. كان يحيط به دائمًا مريدون من العاملين في حقل الدراسات الإسبانية والعربية، يمد لهم يد العون في بحوثهم ويوجههم. كان زاهدًا تعلو روحه مسحة صوفية.
ترك الدكتور سليمان العطار إرثًا كبيرًا في دراسات الأدب المقارن والأندلسيات والأدب المقارن، ولعل أبرزها "الخيال عند ابن عربي"، "مقدمة في تاريخ الأدب العربي: دراسة في بنية العقل العربي"، "الموتيف في الأدب الشعبي والفردي"، و"نحو منهجية جديدة". بيد أن انتاجه في حقل الترجمة له وقع أوسع لطبيعة الكتب المترجمة وانتشارها العريض، وبيرز بينها "دون كيخوتي" التي نال عنها جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، عام 2016. أذكر أنه كان دائم السؤال والتمحيص في بعض الألفاظ والتعبيرات اللغوية التي كانت تستوقفه في اللغة الإسبانية.
ومن طرائف ترجماته أنه عندما انتهى من ترجمة "مائة عام من العزلة"، لغارثيا ماركيث، سلمها إلى الهيئة العامة للكتاب التي أهملت النشر عامين إلى أن حاز الروائي الكولمبي جائزة نوبل عام 1982 بحث عنها رئيس الهيئة سنتئذ الشاعر صلاح عبد الصبور ونشرها فورًا!
عمل مستشارًا ثقافيًا ومديرًا للمعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، وهناك أعاد الحياة إلى مجلة المعهد التي كان قد أصابها الجمود على يد سلفه في الموقع. وربط كبار المستعربين الإسبان المعهد نظرًا لسابق عهده بهم في مرحلة دراسة الدكتوراه.
إسبانيا بدورها لم تغفل دور الجسر الذي قام به بين الثقافة الإسبانية والعربية بترجماته وعمله مديرًا للمعهد المصري فمنحته وسام الإستحقاق المدني عام 2015، إلى جانب الصديق الراحل محمد أبو العطا، الأستاذ في كلية الألسن.
كان العطار يلح على ضرورة الاهتمام بالترجمة وتنظيمها منعًا للتكرار ونقل أفضل ما ينتجه الفكر والأدب العالمي، من منطلق أن الترجمة المنظمة تمثل أحد أسرار التقدم في العالم.
تمتع بشخصية متفردة لا تتسق مع الكثيرين لهذا رأى فيه البعض متصوفًا وفيلسوفًا زاهدًا في مغريات الحياة، بينما رآه آخرون مغردًا خارج السرب إجتماعيًا وعقائديًا. إلا أنه كان هو ذو الشخصية الفريدة، يؤمن بحرية الآخر، وينأ بنفسه عن المعارك الواهية، فأحبه كل من اقترب منه ونعاه المئات أمس واليوم على صفحات التواصل الإجتماعي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مزيد من تفاصيل حياته ونشاطه في مدريد
منذر العربي ( 2020 / 3 / 15 - 07:54 )
صباح الخير
كنت أتمنى أن أقرأ تفاصيل أكثر عن حياة الدكتور سليمان وأنشطته في المعهد المصري خاصة وأنك عاصرته وشاركته في الكثير منها حسب ما فهمت، خاصة المحاضرات والمؤتمرات واحياء .
مجلة المعهد المصري.
ألا يستحق الدكتور سليمان إلى طرح أكبر حول حياته؟ لعل قلمك السخي يتفضل بذلك.
تحياتي وشكري.


2 - لا أخوض في الأمور الشخصية
خالد سالم ( 2020 / 3 / 16 - 14:41 )
مساء الخير.
الحقيقة عندي الكثير من الأمور اليومية والشخصية، لكنها لا تعني أحد سوى من عاشها وفي .
.المقدمة الدكتور سليمان.
بالفعل كنت قريبًا منه وشاركته في الاعداد لبعض الأنشطة الثقافية، الأمسيات، اللقاءات، المؤتمرات،... وكانت لنا جلساتنا المطولة.
تحياتي.

اخر الافلام

.. شكلت لوحات فنية.. عرض مُبهر بالطائرات من دون طيار في كوريا ا


.. إعلان نشره رئيس شركة أبل يثير غضب فنانين وكتاب والشركة: آسفو




.. متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا


.. أون سيت - هل يوجد جزء ثالث لـ مسلسل وبينا ميعاد؟..الفنان صبر




.. حكاية بكاء أحمد السبكي بعد نجاح ابنه كريم السبكي في فيلم #شق