الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طريدٌ في دولة البعث ومهدورٌ كدم

جوان رمو

2020 / 3 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


دخل مدير المعهد على غير عادته الفصل الدراسي برفقة أمين سره، متجهّم الوجه وعلامات الغضب بادية على ملامحه، تناول ورقة كان يحملها بيده، وبدأ يتلوها على مسامع الطلاب.

وما إن انتهى من قراءة تلك الورقة، حتى ساد الصمت القاعة الدراسيّة، ما كانت تلك الورقة إلّا قرار فصل الطالب "فتح الله حسيني" نهائياً من المعهد، دون أيّ توضيح لسبب قرار الفصل.

طلب المدير من الحسيني حمل أغراضه ومغادرة المعهد نهائياً دون رجعة، مردفاً طلبه بعبارة "خلي لغتك الكُرديّة تنفعك"، حينها أدرك فتح الله أن السبب أمني بحت، ومتعلّق بنشاطه الحزبي والكُردي، فردّ عليه "نعم.. ستنفعني، أنا كُردي وأفتخر بهويتي الكُردية، قد تستطيعون تحطيم حلم أمي في أن أكون معلماً كما تشتهي هي، ولكنكم لن تستطيعوا أبداً سلب هويتي ومستقبلي"، ثم حمل كتبه وأغراضه وغادر القاعة الدراسيّة.

فتح الله كان طالباً في السنة الثانية في معهد إعداد المدرسين للغة العربيّة، لم يكن يفصله عن حلم أمّه التي كانت تحلم دوماً أن تراه معلماً، سوى عام واحد فقط، حال تقرير أمني كتبه أحد مخبري نظام حافظ الأسد من الطلبة البعثيين، دون تحقيق ذلك الحلم.

تقرير واحد من مخبري نظام الأسد كفيل بأن يقلّب حياتك رأس على عقب، هكذا انقلبت حياة فتح الله، بات يشكل خطراً على أمن الدولة، التهمة التي عرفها فيما بعد، وبسببها أُبعد عن مقاعد الدراسة، وحرمته من التوظيف في مؤسسات الدولة طوال حياته.

لم يثنِ ذلك من عزم فتح الله عن إكمال مسيرته الحزبيّة ونشاطته الأدبيّة والكُردية، فتح الله الذي عُرف في محيطه كشاعر يكتب باللغتين الكُردية والعربية وككاتب صحفي، بدأ يتنقل بين بيروت ودمشق، كلما أراد أن يطبع مجموعته الشعرية، فتبارك له بيروت مولوده الجديد - كما يحلو أن يسمي مجموعته الشعرية - في الوقت الذي تضيّق الرقابة في دمشق الخناق على كتاباته.

وعرف أيضاً بنشاطه بين رفاقه في الحزب اليساري الكُردي، فعمل كعريف حفل في احتفاﻻت عيد النوروز لعدة سنوات، وشارك في المجالات اﻷدبيّة بكثرة، وكان له مشاركات أدبيّة في عدّة مدن سوريّة، الأمر الذي لم يرق لنظام الأسد، ولا سيما أنّ الأحزاب الكُردية بمجملها محظورة من أيّ نشاط في دولة البعث، ويعد القيام بأيّ نشاط من خلال تلك الأحزاب من وجهة نظر النظام الأمني في دمشق، نشاط مشبوه يهدف إلى وهن عزيمة الأمة، وإضعاف الشعور القومي، التّهمة التي قد تؤدي بصاحبها إلى غياهب السجن لسنوات، وعليه بدأ نظام الأسد في دولة البعث بتضييق الخناق على فتح الله ورفاقه، وبدأ باعتقال البعض منهم، فيما تمكّن آخرون ومن بينهم فتح الله من الهروب خارج البلد.

تمكّن فتح الله من الإفلات من قبضة نظام الأسد الأمنية، واستقر به الحال في مدينة السليمانية في إقليم كوردستان العراق، وتابع نشاطه الحزبي بحريّة، وغدا عضواً في اللجنة المركزية للحزب اليساري الكردي، كما استئنف كتاباته الصحفية في أكثر من صحيفة، بعيداً عن القيود التي كانت تفرضها صحافة البعث ونظامه، وشغل منصب نائب رئيس تحرير صحيفة "الأمل" الأسبوعية التي كانت تصدر في مدينة السليمانية.

كل ذلك فتح لحسيني الباب ليطلق العنان لمشاعره ولقلمه، فأصدر أكثر من مجموعة شعريّة، إلّا أن عناوين تلك المجموعات الشعرية تشير بقوّة إلى أنه ما زال يخوض معركة حريّة الكتابة والتعبير ضد شبح نظام البعث الذي ما زال يطارده في أحلامه وذكرياته، نظام الأسد الذي حاول بكل جبروته وسطوته أن يخرس كلمات فتح الله ويكسر قلمه، فحملت إحدى مجموعاته الشعريّة اسم "طريدٌ لا محال"، فيما حملت أخرى أصدرت بعدها بأربع سنوات اسم "مهدورٌ كدم".

يذكّرني محاولات نظام البعث البائسة لقمع الكلمة الحرة، وإلغاء حق الإنسان في حرية الرأي والتعبير بعبارة للكاتب الأمريكي "إرنست همينغوي"، وردت في روايته "العجوز والبحر" على لسان بطله "سانتياغو"، حيث يقول: "من الممكن أن تسحق الإنسان لكنك من المستحيل أن تهزمه".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الألعاب الأولمبية باريس 2024: إشكالية مراقبة الجماهير عن طر


.. عواصف في فرنسا : ما هي ظاهرة -سوبرسيل- التي أغلقت مطارات و أ




.. غزة: هل بدأت احتجاجات الطلاب بالجامعات الأمريكية تخرج عن مسا


.. الفيضانات تدمر طرقا وجسورا وتقتل ما لا يقل عن 188 شخصا في كي




.. الجيش الإسرائيلي يواصل قصف قطاع غزة ويوقع المزيد من القتلى و