الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث عن عائشة: الفصل الرابع عشر/ 3

دلور ميقري

2020 / 3 / 18
الادب والفن


ذلك كان أسبوع عيد الفصح، وطريق القلمون الرئيس يشهد عادةً سيارات قادمة من العاصمة مع الحجاج إلى أديرة صيدنايا ومعلولا. تم للدرك تشديد مراقبة الطريق بصورة أكبر، برغم أن الثوار لم يتعرضوا مرة قط للقرى المسيحية. بل إنها عصابة أولاد عكاش، مَن روعت النصارى مراراً بهدف النهب والابتزاز. مع ذلك، وضع الفرنسيون يدهم بأيدي أفرادها بغيَة التعاون للقضاء على عصابة الثوار في المنطقة. استغل أولئك الخصوم مناسبة الفصح كي يقتربوا من قرية معربا، مركز العصابة الرئيس. عقبَ انتهاء الحرب العظمى، عادت القرية لتزدهر حتى عد سكانها الأغنى في ريف المدينة الشمالي الشرقي. الوادي، المطلة عليه بيوت القرية، كان مصدر غناها: كروم العنب، كان محصولها الأكثر ربحاً بالنظر لجودته وسرعة تسويقه بسبب قرب معربا لمدينة دمشق.
بيوت القرية، المتراكمة فوق بعضها البعض على السفح، كانت تبدو من بعيد لعينيّ خلّو كأنها سَحّارات العنب، التي يجري تسويقها إلى المدينة. لكن الموسم كان ما زال بعيداً، والكروم بالكاد بدأت براعمها تعطي عناقيد الحصرم، المغطاة بالأوراق الزاهية الخضرة. وكانت الكروم، من ناحية أخرى، هيَ ملاذ العصابة لو تعرضت لهجوم مفاجئ، ومن خلالها في الوسع الانتقال إلى أمان الجبال المجاورة. في الفترة الماضية، قيّضَ لهم استكشاف بعض الكهوف، وكانت تحتوي على نقوش صلبان؛ ما عزز الرأي بأن المسيحيين الأوائل كانوا يلوذون بها هرباً من اضطهاد الرومان: هذا في حقيقة الحال كان رأي الصحافيّ أحمد ملا، الذي أكّد بأن ثمة قناطرَ وقبوراً تعود إلى ذلك الزمن، متناثرة في أماكن عديدة من القرية.

***
في أثناء الربيع، تزايدت قوة العصابة بالتحاق شبان من الأكراد والصالحية، حتى ناهز عددُ أفرادها العشرين. فضلاً عن هذا الرقم، كان ثمة متعاونون مع العصابة، غالبيتهم من عناصر الدرك والقرويين المحليين، يقدمون المعلومات لأفرادها ويسهلون مرورهم في أنحاء المنطقة. بذلك نجوا من عدة كمائن، مثلما أن هجماتهم على الفرنسيين وقواتهم الرديفة كانت ناجحة. هذه القوات، كانت مؤلفة من كتائب السنغال والمغاربة ذات الصيت الشنيع بين السكان. لكن كونهم مرتزقة، لم يصمدوا في المواجهات مع الثوار. ضعف هؤلاء المرتزقة، علاوة على عدم الثقة بالدرك، كان دافع الفرنسيين للاعتماد هذه المرة على عصابات قطاع الطرق وبعضها كان من العنصر الكرديّ ومن مخلفات الحرب العظمى. ولعل بعضهم كان سابقاً تحت إمرة شقيق خلّو الراحل، حمو جمّو، الذي علمنا أنه كان يعتبر قاطع الطريق الأشهر في بر الشام.
ليلاً، كان السكون يلف العراء حول معسكر العصابة، لا يقطعه سوى نعيق اليوم، المتخذ أعشاشه بين أشجار المرتفع الصخريّ. كلب حراسة، كان في السابق ينبح عند كل ظهور لإحدى تلك الطيور، ما جعل رقاد أفراد العصابة قلقاً. إلى أن ألِفَ الحيوان حركة الطيور، ولم يعُد للنباح سوى لو أحس باقتراب أحد الضباع أو الذئاب. زعيم العصابة، وكان يناوب ليلاً في الحراسة كالبقية، دأبَ على رفقة الحيوان وكان يستعيد من خلاله كلبَ والدته الراحلة؛ " جمال باشا "، الذي لحقَ بصاحبته سريعاً كعادة أبناء جنسه الأوفياء. مكان رقاد أفراد العصابة، كان في فسحة خضراء بأسفل المنحدر الصخريّ، وقد سوّرَ طبيعياً من ناحية الوادي بشجيرات تفاح وكمثرى. تحت إحدى هذه الشجيرات جلس خلّو ذات ليلة للحراسة، وكان الكلبُ يروح ويجيء بالقرب منه وأحياناً يلتصق به مداعباً وجهه بلسانه. بعد قليل، أفاقَ الصحافيّ وبقيَ هنيهة يفكّر تحت ضوء القمر المنير. ما لبثَ أن نهضَ من فراشه المرتجل، ليقترب بدَوره من صديقه المناوب.
" الأمور لا تسير على ما يرام، وفي التالي، فمآل الثورة لا يبشر بالخير "، ابتدأ الصحافيّ يكلم صديقه. ثم أوضح ما يقصده، بالقول: " الحرب العظمى قضت على جيل كامل تقريباً، ولما تنفست البلاد الصعداء جاء الفرنسيون وخلطوا الأوراق بعضها ببعض. ربما كان الأفضل لو انتظرنا فترة أطول، قبل إعلان الثورة. لكن من هم في الحقيقة من أعلنوها، ولأي غاية؟ لاحظ أن الأعيان المسلمين، الذين فقدوا حظوتهم برحيل الأتراك، هم من تولوا التحريض ضد الفرنسيين بزعم أنهم أخلاف الصليبيين وورثتهم. الآخرون من زعماء الطوائف، كصالح العلي وسلطان الأطرش، كان لديهم دوافع مشابهة؛ كتحسسهم من دعم المنتدبين لطوائف منافسة أو من قبيل عمل الإدارة المنتدبة على تقليص نفوذ الزعامات المحلية. لكن صالح العلي امتنع عن المشاركة في الثورة، لأن الفرنسيين جعلوا لجبال العلويين إدارة حكم ذاتية. المسيحيون، في المقابل، كانوا أقل تحمساً في الانخراط عملياً ضد الثوار. إنهم لم يفيدوا كثيراً من رحيل الأتراك وفرض الانتداب، وهذا ما نراه من خلال استمرار هجرتهم إلى الأمريكتين، عدا عن ضعف تأثيرهم في الحكومة بشكل عام. لو تركنا هذا التصنيف الطائفي، ونظرنا للأمور بشكل وطنيّ شامل، لرأينا أن الحالَ أكثر تفاؤلاً: التجار، وهم ركيزة المدن، ينشطون مستفيدين من تطور الصناعة مع دخول الكهرباء في كل مجالات الحياة. أما في الريف، فإن الفلاحين يبدون راضين بعدما ذاقوا الأمرين من المجاعة والوباء في سنين الحرب. هؤلاء وأولئك، يبدون العطف علينا، لكنهم مستعدون لتقديم رؤوسنا للفرنسيين لو تهددت مصالحهم بفعل الثورة "
" وماذا عن المثقفين، يا صديقي؟ "، تساءل خلّو وكان أيضاً نهباً لهواجس مشابهة. فكّر الصحافيّ قليلاً، ثم أجاب: " إنهم كالسائر في النوم، يتخبط هنا وهناك حتى يقوم أحدهم بإيقاظه. لقد استفادوا من الوضع الجديد، ربما أكثر من غيرهم، بالأخص مع اتساع حرية الصحافة وتأسيس الأحزاب والجمعيات والنوادي. عدا عن خلق فئة جديدة من المتعلمين، المتخرجين من الجامعات والمعاهد. مع ذلك، تجد صوت المثقفين هوَ الأعلى بانتقاد الإدارة المنتدبة والدعوة للثورة عليها وحمل السلاح بوجهها ". ثم خلص الصحافي للقول: " هكذا ترى الأمورَ مشوشة، متناقضة، ولا يعلم إلا الله ما يخبئه الغد من تطورات ومفاجآت ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج عادل عوض يكشف كواليس زفاف ابنته جميلة عوض: اتفاجئت بع


.. غوغل تضيف اللغة الأمازيغية لخدمة الترجمة




.. تفاصيل ومواعيد حفلات مهرجان العلمين .. منير وكايروكي وعمر خي


.. «محمد أنور» من عرض فيلم «جوازة توكسيك»: سعيد بالتجربة جدًا




.. فـرنـسـا: لـمـاذا تـغـيـب ثـقـافـة الائتلاف؟ • فرانس 24 / FR