الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن واقعية ماركيز وسحره

محمد علاء الدين عبد المولى

2006 / 6 / 9
الادب والفن


عن واقعية غابرييل ماركيز وسحره
* جدته وكافكا وألف ليلة وليلة وراء واقعيته السحرية *
ماركيز من الأسماء التي إذا ذكرت تولدت معها مجموعة من الموضوعات والأشياء والأماكن والأسماء والأفكار. وهي بكليتها تعطي انطباعا بأن ماركيز أصبح من الوقائع الثقافية في العالم شئنا أم أبينا، بل وأصبح من الفاعلين في هذه الوقائع حتى لو اضطر القارىء للاختلاف معه ومع أسلوبه فهذا من طبائع الوقائع التي لا يمكن أن تنال إجماعا مطلقا وبالتأكيد سيرحّب ماركيز نفسه بأن يوجد قراء لا يعجبون به مع أنهم يعرفون قيمته الخاصة والفريدة.
ارتبط اسم ماركيز بما يسمى بالواقعية السحرية التي هي بالنسبة له خيار فني وقع عليه في أسلوبه الروائي. وهي مفهوم يجمع في داخله دلالتين تبدوان للوهلة الأولى متناقضتين وهما (الواقع) و(السحر)، في حين أنهما يصنعان معا ضفتين لنهر واحد، ولا غنى عنهما لا في الأعمال الأدبية فقط، بل نحن نجد لدى التدقيق أن حياتنا اليومية ليست قائمة على أنها واقعية دائماً، وإنما فيها الكثير من الغرابة في المواقف والسلوك والمفاجآت التي لا تحمل تفسيراً عقلانياً مما يجعلها مغلّفةً بالدلالة المفارقة وعدم التصديق، ويوقعها في دائرة السحر الغامض. أما بالنسبة لماركيز فالواقعية السحرية لم تكن في الحقيقة من اختراعه إلى تلك الدرجة بل هو عمل على تنمية هذه الناحية وتطويرها ووصمها ببصمته الخاصة ومنحها خصوصيته حتى خلق لدى الآخرين بأنها ملكه الشخصي. وقد سئل ماركيز عن إمكانية تصديق أحداث روايته (الحب في زمن الكوليرا) فأجاب بأن على القارىء أن يدرك أن في الرواية قدرا من السحر والخرافة يوازي قدرا آخر من الواقعية. وهذا إقرار مننه بأن طبيعة الرواية كعمل إبداعيّ تفترضُ أن تختلط فيها الوقائع المعقولة باللامعقولة والممكن والمستحيل. بمعنى أنهيتم في مسار الرواية الارتفاع بحدث عاديّ إلى مصاف الحدث غير المحتمل الحدوث والذي لا يملك أسباباً موجبة لحدوثه ولا يصدق لأنه غير واقعي، وذلك عبر حرفه عن مساره الواقعي لينتقل إلى حدثٍ ذي مسار أدبيّ يمتلك هويته من خلال اندراجه في نسيج متكامل من اللغة والمجاز والرؤيا داخل بنية أدبية منسجمة مع خصائصها الداخلية. وهذا كما هو واضح من شروط الكتابة الأدبية بصورة عامة وليس خاصا بالرواية وحدها. وإلا فما هي ضرورة الأدب إن لم يكن تصوراً قائماً على التخيل وعدم المطابقة مع الواقع؟ وقد أدرك ماركيز منذ اكتشاف موهبته أن في الأدب إمكانات أكثر من الإمكانات العقلانية. ومن الجدير ذكره أنه في مطلع شبابه أعجب بأدب كافكا. ومن يعرف تجربة كافكا وعوالمه الاستثنائية في مجال الغرابة واللاواقعية سيكتشف مصدرا مهماً من مصادر الواقعية السحرية لدى ماركيز. وقد قال ماركيز أنه عندما قرأ (المسخ) لكافكا اهتدى إلى أن يكون كاتباً وكان عمره سبعة عشر عاماً. وهذه إشارة لا ليبس فيها للأثر الحقيقي لكافكا في موضوع الواقعية السحرية. ولا سيما في (المسخ).
ومن جهة أخرى ربّى ماركيز مخيلته على حكايات شعبية وعلى خرافات الشعوب التي كانت تسردها عليه جدته التي كانت دون وعي منها تلقي فيه البذرة الأولى لتوجيهه نحو أسلوب الحكي الخرافي والساحر واللامعقول. ويذكر ماركيز في أحد حواراته أنه عندما قرأ الجملة الأولى من رواية (المسخ) لكافكا وهي (( ما إن أفاق غريغور سامسا ذات صباحٍ من أحلامه المزعجة حتى وجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمةٍ)) عند ذلك يقول ماركيز فكرت: اللعنة... هكذا كانت جدتي تتحدث...وهذه إشارة أخرى ومهمة لعلاقة بين أسلوب الحكاية الخرافية والسرد الغرائبي للجدة والأسلوب اللامعقول لدى كافكا وهي علاقة اكتشفها ماركيز كما يقول منذ الجملة الأولى من المسخ وذلك في إشارة إلى تحول الشخصية من إنسان إلى حشرة ضخمة... وهذا حدث غير واقعي ولا يمكن إلا أن يكون من اختصاص العمل الإبداعي المحض وهو ما كانت تقدمه الجدة لماركيز.
من جهة أخرى لا بد أن نذكر أن ماركيز اطلع بشكل أو بآخر على حكايات العرب الخرافية وأعجب بالغرائب المنتشرة في قصصهم الشعبية (ألف ليلة وليلة كمثال دائم الحضور) وهي ليالٍ لا يخفى تأثيرها على العديد من كتاب العالم. وهذا أمر طبيعيّ حيث أن (ألف ليلة وليلة) كتاب مصنوع بطريقة تجعل منه نصا يمكن قراءته من قبل جميع الشعوب دون استثناء وهذا ما تحققه الحكايات والأساطير الأخرى للشعوب الأخرى كذلك وليس خاصا بألف ليلة وليلة... ولكن نحن نشير على أن هذه الليالي كانت مصدرا للواقعية السحرية لماركيز لأنه قائمة على الخوارق والمعجزات والدهشة والغرابة واللامعقول. ولا ننسى أن نذكّر بأن ماركيز لم يقع تحت التقليد الحرفي لكل هذه المصادر بل عجنها بشخصيته المستقلة كما سبق واشرنا.لذلك من الصعوبة القول بأنه في هذا العمل متأثر بالمسخ وهناك بجدته وفي مكان آخر بألف ليلة وليلة. إن ماركيز من الأهمية بحيث يعيد تركيب المصادر والقراءات ليسخرها في سبيل صياغة عالم خاص به.
لكن ماركيز الذي كان إلى هذه الدرجة واقعيا سحريّاً كان كذلك مشغولاً بموضوعات قهر الإنسان وقمعه وانتقاد الديكتاتوريات في أمريكا اللاتينية. وقد استطاع التوفيق ببراعة تحسب له بين انغماسه بمشروع حرية وفرح الإنسان وعوالمه الخاصة من جهة وبين تقنياته وسحريته ومتطلباته الأدبية من جهة ثانية، بحيث لم يفرط لا بهذا ولا بذاك. فأعطانا بذلك مثالاً عن ضرورة عدم التخلي عن خصوصية الإبداع ومحدداته من أجل إيصال فكرة ما أو منظمة عقائدية بشكل فجّ ومباشر. ومن المعروف لدى كل من يقرأ ماركيز علاقاته بكل من كاسترو وغيفارا واليسار الاشتراكي بشكل عامّ، كما هو معروف أن ذلك ماكان ليسحب من بين يديه استقلال الإبداع عن أي إحالة توظيفية لصالح نظام أو نظرية بشكل حرفيّ. أي أن ماركيز لا يضحي بالجمال في سبيل التبشير الإيديولوجي. كيف يفعل ذلك وهو ذو الواقعية السحرية التي من أهداف رسالتها المباشرة وغير المباشرة تحقيق المتعة بصورة مطلقة لدى القارىء وإغراقه في مناخ من المتعة المدهشة؟ إن ماركيز كان يحقق باستثناء متعة الحكي ولذة اللغة. وهنا كان مشروعه الأدبي أولاً، وبعد ذلك فليأت الآخرون. حتى عندما يتخذ من شخصية الديكتاتور نمطا أدبياً، فإنه ينأى بكليته عن الفجاجة في معالجة الشخصية بل هو يلعب على الجوانب اللاممكنة واللامتوقّعة من هذه الشخصية ويسافر في أعماقها وتناقضاتها وأحزانها وإحباطاتها وجبروتها وطغيانها الداخلي ومكوناته البعيدة المدى.
هذا يقود للإشارة إلى شخصيات ماركيز المركبة والمعقدة. وهي صفة ملازمة لشخصياته بصورة مجملة. ولم يكن على هذا الصعيد روائيا سهلاً بمعنى أنه لا يختار الشخصيات المسطّحة وذات الخطّ الأفقي الواضح في الحياة والتركيب. ففي الأصل لا يعتد كثيرا بالشخصية السهلة الخارجية حتى في الحياة اليومية فكيف بالأدب؟ وقد تصل درجة تعقيد الشخصية عنده إلى حد عدم فهم تسلسل أحداثها وتاريخها وهو بذلك يريد تقديم أنماط من الشخصيات الروائية التي تعرف باسمه وتقترن بشخصيته وذلك هدف مبرر لدى كل مبدع. إذ يمكننا الآن أن نقول (بطريرك ماركيز) أو (دكتاتور ماركيز) أو (جنرال ماركيز) أو (الأم العظيمة لماركيز) أو (كولونيل ماركيز) أو (مدينة ماكوندو لماركيز)... الخ ونحن لا نذكر اسم (ماكوندو) جزافا. فإذا لم تكن ماكوندو اسم شخصية بشرية بل هي اسم مزرعة أو قرية صغيرة كولومبية، لكن ماركيز جعل منها فضاءً أدبياً ودلالياً للكثير من روايته وكان هذا المكان يأخذ كل مرة معاني جديدة تتناسب مع غاية ومشروع الرواية. ولم يعتمد ماركيز على واقعية القرية وإمكانياتها المرئية بل تخطى ذلك وحولها من شيء ملقى طرف الجغرافيا إلى رمز ملقى في قلب الأدب، وهو بذلك استطاع أن يجعلها شخصية روائية تتطور وتنمو وتأخذ أبعادا جديدة ومختلفة حسب المناخ الداخلي للرواية.
وربما كان انطلاق ماركيز من قريته أو مكانه الأول وبيئته الشعبية والمتداخلة الدلالات والمعاني هو من أول الأسباب الحقيقية وراء قدرته على الانتقال إلى قرية الكون والعالمية.ربما








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص


.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة




.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس


.. ليلى عباس مخرجة الفيلم الفلسطيني في مهرجان الجونة: صورنا قبل




.. بـ«حلق» يرمز للمقاومة.. متضامنون مع القضية الفلسطينية في مهر