الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدن الأشباح

محسن كفحالي

2020 / 3 / 24
الادب والفن


إلى حدود منتصف مارس كانت حياة " كبير" عادية و هادئة ، رغم قلة التساقطات و بعض الأخبار الأتية من بليد بعيد عكرت هذا الهدوء.كبير بعد عودته من حقوله، يفضل كأسا من الشاي و متابعة أخبار الظهيرة، فهو لا يشاهد في التلفاز إلا الأخبار وخصوصا نشرة الطقس ، لكن هذه المرة خرج عن هدوءه المعتاد، قائلا : يا إلهي ماذا فعلت الإنسانية حتى تصاب بهذا الوباء الفتاك ألا يكفينا الحروب والجفاف، و المجاعة ...
قاطعه صوت زوجته من المطبخ، في مجلس النساء قالت السعدية ،زوجة علي صاحب الدكان ، بأن هذا المرض يصيب من يأكل الخفافيش و الضفادع و القطط، و قالت، حليمة زوجه إمام المسجد، أن هذا الوباء عقاب من الله للكفار لأنهم عذبوا المسلمين .
- لا أعرف الحقيقة، و لكن من أين لها هي بهذه المعلومات ؟
-أنسيت! لها ولد في الجندية في العاصمة و يهاتفها يوميا .
-الحقيقية لا يعلمها إلا الله ، لكن ما رأيك يا "حورية" في الذي يأكل أموال اليتامى ، و الذي يظلم الناس و يعتدي على حقوقهم ، أي مرض بليق بهم ؟
-أحيانا لا أفهمك و لكن إذا كان كلامك يا "كبير" يدخل في السياسة فمن الأفضل أن تصمت ، لم يعد فينا ما يتحمل بهدلة السجون مثل زمان ، و أنت تعرف لم يتبقى لي في هذه الحياة أحد سواء بعد أن حرمنا من الإنجاب ، اغرورقت عيناها بالدموع و لم تستطيع إتمام الكلام . تنهدت و جمعت أنفاسها قائلة : هل ندمت يا " كبير" لأنني لم أستطيع أن أنجب لك بنتا أو ولدا ؟
رسم على وجهه ابتسامة خفيفة ، الصمت يا حبيبتي له صوت أكثر من الكلام ، بل أكثر من الصراخ ، الصمت لغة الأقوياء لا الجبناء ، الحقيقة الندم الوحيد الذي كنت سأشعر به هو فقدانك، كان القدر جميلا لأنه جمع بيننا و أنا لم أحب أي شيء في حياتي أكثر منك ، و الحقيقة أن راضي كل الرضا لأن الله منحني قلبك ، لكن هل كنت تتركني إذا كان نفس الأمر حدث معي ؟
لم تسطيع المقاومة ، ارتمت في حضنه ، بدأ يصفف شعرها قائلا: أحببتك و أنت صغيرة ، أحببتك أكثر و أنت تكبرين معي ، و سأحبك و أنت عجوز، عشنا معا و سنموت معا .
في اليوم الموالي كانت الأخبار تتسارع ، و أصبح الأمر مأسويا، كانت الإنسانية تسير إلى الفناء مع اتساع دائرة الزائر المجهول الذي أرعب المفكرين، أما عامة الناس فاكتفت بتابعة الأحداث و الأخبار عن بعد .
خرج " كبير " ذاك اليوم مبكرا ، ظلت زوجته تترنح في المنزل خوفا من أن يكون مكروها قد أصابه ، لحظات سمعت دقات خفيفة على الباب ، فتحت الباب و قبل أن يتكلم ،سألته : أين كنت يا "كبير" ؟ تعرف أنني اشتاق إليك كثيرا ، و لا أستطيع العيش من دونك ،خاطئ من قال أن المنازل أسوار ونوافذ و أبواب ....، المنازل حب و رحمة و مودة ، و في غياب هذه الأشياء في المنازل مجرد طوب و إسمنت.
- هل تعرفين الأخبار الرائجة في الخارج يا "حورية "
- لم أخرج هذا اليوم و لا علم لي بأي شيء، ماذا هناك ؟
- سمعت وأنا عائد من الحقل أن المرض دخل البلاد ، و بعد توقيف الدراسة سيتم إغلاق المساجد، الأسواق، بعض المحالات التجارية ، و سيمنع السفر و الخروج إلا للضرورة . تنهد بصوت مرتفع قائلا: أي ذنب ارتكبت الإنسانية ، أي مرض هذا الذي جعل العالم يتوقف بمجالاته المختلفة .
قابل التلفاز و هو الذي لم يكون يتابع غير نشرة الأخيار و أحوال الطقس ، بدت الأرقام مخيفة ، في هذه الدولة الوفيات بالمئات و في هذه الدولة بالألاف ، أما الإصابات فكانت تسير بخط تصاعدي لا يتوقف. بدت له الأرقام محزنة ، مخيفة ، مرعبة ، وضع يده على خده و أمسك بيده الأخرى يد زوجته ، لا أخاف الموت و لكن لا أحب أن تكون نهايتي في غرفة زجاجية ، أفضل أن تكون نهايتي وسط الناس وسط الجيران ، أفضل أن تكون نهايتي بين ذراعيك و أنا أنظر إلى عينيك ، أريد أن تكون أخر شيء أراه قبل موتي ، لا أحب أم أموت وحيدا و أدفن
وحيدا ،وضعت راحتها على فمه و ظلت صامتة تنظر إليه.
في هذه اللحظة كانت القنوات التلفزيونية تعرض صور الجثث و المقابر الجماعية ، لحظات اثبتت أن الإنسان مجرد كائن ضعيف أمام غطرسة الطبيعة.لم يمر وقت طويل حتى أتى خبر اليقين ، حينما أعلن مسؤول وزاري رفيع المستوى أن البلد تعلن حالة الطوارئ لمدة شهر ، و عليه يجب على كل شخص المكوث في منزله .
كان اليوم الأول ل" كبير" يوما صعبا جدا ، كبير الذي لم يعهد المكوث في البيت إلا للراحة و النوم، اليوم أصبح مفروضا عليه المكوث في البيت شهرا كاملا و لا يخرج إلا للضرورة ، إنها تشبه تجربة السجن الاختياري ، أسئلة و أخرى سكنت تفكيره " هل يعيش الإنسان بالطعام فقط ؟ أليس هناك ما هو أجدر من الأكل ؟ أليس الحرية هي ماهية الإنسان و جوهره ؟ وجد كبير نفسه حائرا بين موقفين ، هل يختار الحرية أم الحياة ؟ فضل الحياة ووصل إلى حقيقة أن العيش بدون حرية هي موت في حد ذاتها ، وصل إلى حقيقة مفادها أن تجرية السجن هي أسوء ما يمكن أن يعيشه الإنسان. كان صادقا "أنطوان تشيخوف" عندما تحيز في إحدى قصصه إلى عقوبة الإعدام و فضلها عن السجن المؤبد .
من ذلك اليوم أصبح "كبير" يعيش حياة السجن الاختياري من أجل حرية معهودة في أقرب وقتت ممكن ، أو على الأقل كانت أماله أن يعود إلى حقلة و جيرانه و حياته الطبيعية . كان يقضي يومه العصيب أمام شاشة التلفاز أو يترنح من غرفة إلى غرفة و أحيانا يصعد إلى سطح منزله ينظر إلى العالم من فوقف متمنيا أن تسطع شمس الحياة من جديد.
أمام التلفاز " عاش كبير تناقضا " لم يعيشه من قبل ، عرف من خلال الأخبار أن شخصيات مهمة ساهمت بمبالغ مهمة من علاج المرضى و محاصرة الوباء ، عرف أيضا أن المريض يمكن أن يتصل فقط و الدولة تتكلف بالتنقل إلى منزله و تقديم المساعدات الضرورية،.
سمعت أيضا أن الجيش و الأمن و مختلف السلطات نزلت إلى الشارع من أجل حماية المواطنين ، و في القنوات التلفزيونية نشرات الأخبار مستمرة عن الوضع و تقديم المساعدات و إلإرشادات للناس، و صرب من حديد على كل من ينشر أخبار زائفة أو يهدد سلامة المواطنين . نشرات الأخبار تطمئن الناس بأن كل شيء على ما يرام ، و أن الأسواق فيها إحياطي كبير من الخر و الفواكه و المواد الغذائية و الدولة عازمة على ضرب من حديد على يد كل من سولت له نفسه التلاعي بأرواح الناس ، الأطباء يشتغلون بلا ملل و لا كلل ، و الأساتذة رغم توقف الدراسة فهم مرابطون في منازلهم من أجل التعليم عن بعد .
وسط هذه الأخبار المفرحة ، كانت حوادث تعكر تفكير " كبير " ، سمع أن هناك احتكار من طرف البعض للمواد الاستهلاكية ، و أن بعض الناس تتهافت على الحاجيات الضرورية ، و أن هناك من استغل الوضعية التي تعيشها البلاد لصالح من أجل مراكمة رؤوس الأموال .
بقي مندهشا ، حائرا ، هل فعلا ما يقال هو الحقيقة ، أم التلفزيون يلعب لعبته المفضلة ، لعبة الكذب و الخداع ، كم من مرة أكد أن أمطار الخير ستزور بلادنا و لكن الحقيقية غير ذلك ، لكن هذه المرة أعتقد أن الأمر جدي للغاية و صحيح ، في ليلة واحدة كل شيء تغير ، أصبح التضامن و حب الوطن عملة أساسية داخل الوطن ، أكاد لا أصق نفسي ، هل فعلا ما أسمعه هو الحقيقية ؟
-قاطعت تفكيره زوجته قائلة : كل شيء ممكن ، نتمنى أن تزول هذه الغمامة و أن تعود الحياة إلى طبيعتها ، أتمنى أن تتزوج بنت جيراننا التي انتظرت طويلا و لم يكتب لها أن تفرح في هذه الأيام ، أتمنى للآباء تفرح بحضن أبنائهم.
-أي وطن هذا الذي يكتنز جميع هذه الخيرات ، أي وطن هذا يحمل في فؤاده كل هذا الحب و التضامن و الرحمة ، أي إنسان هذا يمتلك هذا الوطن ، ثم صمت قليلا ، ثم قال: " أتمنى أن يزول الوباء و أن يستمر الوطن الذي عشته بعد الوباء"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال