الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزرازير والحساب

صائب خليل

2006 / 6 / 9
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


يحكى ان الزرازير كانت تعيش على شجرة لوز كبيرة, وكانت تدرك ان كثافة اوراق الشجرة تحميها من رؤية الصيادين لها, لذا فأنها لا تطير ابداً ان رأت صياداً يحوم بالقرب منها, حتى لو حاول اخافتها بإطلاق النار في الهواء او الصراخ والتهويش بيديه. لذلك قرر الصيادين ان يختبئوا تحت الشجرة نفسها لخداع الزرازير.

جاء صياد واختبأ اسفل الشجرة وانتظر طويلاً. لكن الزرازير لم تطر. كانت قد رأت صياداً يتجه الى اسفل الشجرة, ولم يخرج, إذن فهو مازال هناك! وهكذا نجت الزرازير في اليوم الأول.
في اليوم التالي جاء صيادين اثنين واختفيا لبرهة تحت الشجرة, ثم خرج احدهما وذهب. لكن الزرازير لم تطر لأنها حسبت ان صيادين اثنين قد دخلا, ولم يخرج إلا صياد واحد, فهناك إذن صياد بقي تحت الشجرة.
في اليوم الثالث اختبأ ثلاث صيادين تحت الشجرة ثم غادرها اثنين. الزرازير لم تكن تعرف العد لأكثر من اثنين, لذا لم تستطع ان تميز بين الثلاثة الذي جاءوا والأثنين الذين ذهبا, فطارت لتلقى مصيرها على رصاص الصياد المختبئ.
هكذا دفعت الزرازير حياتها ثمنا لأنها لم تستطع العد لأكثر من اثنين.

الكثير من البشر يبدون غير قادرين او غير راغبين في العد لأكثر من اثنين في رؤيتهم واتخاذ مواقفهم.
إنهم يقسمون العالم الى نصفين دائماً: فبوش يقول " اما ان تكونوا معنا او مع الإرهاب." تماماً كما كان نظام صدام يقسم العراقيين الى بعثيين وأعداء.
لكن مشكلة كسل الحساب لم تقتصر على بوش وصدام و سطحيي الإهتمام بالسياسة من الناس, بل تشمل الكثير من المثقفين ايضاً, وتظهر بشكل ميل الى تقسيم مبسط للعالم الى خير وشر, اسود وابيض, مع فلان او ضده.

فمثلاً في الجدل الدائر حول فضيحة مذبحة حديثة, رفض البعض من هؤلاء استنكار الجريمة, بل امتنعوا عن قراءة المقالات التي تدينها وتجنبوا تفاصيل الأخبار حولها ورؤية افلام الفيديو عنها. والسبب هو ان مثل هذا العمل يدين اميركا لذا فهو تأييد لصدام. فبالنسبة لهؤلاء في العالم اميركا وصدام فقط ولا ثالث لهما!

هذا المنطق شديد التبسيط, شديد العاطفة والكسول التفكير يناقض نفسه بنفسه. ففي حماسه الشديد ضد خصمه, يراه ممثلاً لكل الشر, فلا بد ان خصم خصمه يمثل كل الخير. ولحماية هذه النظرة السهلة الكسر, يلجأ اصحابها الى بذل جهد نفسي وذهني شديد لتجاهل نواقص ابطالهم وتأريخهم وترهيم الحجج لتبرير اعمالهم.

فتجد لدى من كان من هؤلاء شديدي الكره لصدام, مؤلهين لأميركا, غير قادرين على رؤية وتقييم التصرفات والتأريخ الأمريكيين بأي درجة معقولة من الموضوعية. ومن الجانب الآخر, يرى من كره الإحتلال وتصرفاته وجرائمه في صدام البطل المخلص, ويبدع في تجنب الحقائق غير المناسبة والذكريات غير المستحبة.
لايخطر على بال هؤلاء واؤلئك امكانية وجود اكثر من شر واحد في العالم وان تلك الشرور تبقى شروراً حتى وان اختلفت فيما بينها. تعمل ادمغة هؤلاء وذاكرتهم بأنتقائية عجيبة لتتذكر ما هو مناسب ونسيان غيره, ولإكتشاف التحليلات التي تؤدي الى تأييد صحة نظريتهم الصعبة, دون التي تفندها.
استمع الى جدل بين هذين الطرفين تجد كل منهما يقول ما هو صحيح غالباً عندما يتحدث عن عدوه, وينخفض منطقه الى درجة مضحكة حين يتحدث عن بطله. وإن حاججته بجرائم بطله فأنه يكتفي عادة بأجوبة عامة أو امثال اوحجج معاكسه عن جرائم الطرف الآخر. هو سعيد بنظريته البسيطة قليلة التفاصيل ويريد ان يبقى سعيداً!

ومن اشكال الكسل الذهني محدود الحساب والمبتعد عن التفاصيل, استعجالاً لإتخاذ موقف, التعميم حيث يفترض التفصيل والتمييز. وترى ذلك عند من يقول لك مثلاً "الأمريكان جهلة". او من ينتقد البرلمان بشكل عام او من يحب او يكره "الدول الأوربية". صحيح ان في اميركا نسبة جهل عالية بالعالم, لكن فيها اعظم المفكرين والكتاب والصحفيين في العالم على الأطلاق. والبرلمان, اي برلمان حقيقي ولو بدرجة ما, كيان متصارع غير متجانس لا يصح الحكم عليه ككتلة واحدة, والدول الأوربية تعميم يجب ان لا يستعمل إلابحذر شديد.

الصراع بين الزرازير والصيادين صراع بقاء: يريد الصيادون النجاة من الجوع بأن يضعوا امام الزرازير معضلة تفوق قدرتها على الحساب لتتخبط في عشوائية كسمكة خارج الماء سهلة الصيد. وأمل الزرازير في البقاء هو في قدرتها على ان تحسب فوق ما يقدر الصيادون على خلقه من إشكالات وتفاصيل. في قدرتها على التفكير النشط المرن المميز للتفاصيل واكتشاف الطريق الضيق الذي يحيطه الخطأ من جانبيه, واستبيانه في كل متاهة ينجح الصيادون في قذفها الى ساحة المعركة.
في القرار راحة وسعادة, وفي التردد ارهاق وقلق, ويبحث الجميع عن السعادة ويتجنب القلق. لكن السعادة السابقة لأوانها قد تكون خطير النتائج احياناً, كما كانت لزرازير شجرة اللوز.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما هي تداعيات إبطال محكمة العدل الأوروبية اتفاقيين تجاريين م


.. إسرائيل تستعد لشن هجوم -قوي وكبير- على إيران.. هل تستهدف الم




.. واشنطن بوست: تساؤلات بشأن مدى تضرر القواعد العسكرية الإسرائي


.. مسيرات تجوب مدنا يابانية تنديدا بالعدوان الإسرائيلي على غزة




.. رقعة | كيف أبدل إعصار هيلين ملامح بلدات نورث كارولينا في أمر