الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحن والجنرال كورونا .. بين قوس الكسعي وندم الفرزدق

الصديق بودوارة

2020 / 3 / 25
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


إنه "عامر بن الحارث الكُسعي"، من قبائل اليمن السعيد ( سابقاً )، يخرج بإبله ليرعاها في وادٍ ذي زرع ونبات حسن، واثناء ذلك يعثر على عودٍ نابت في جوف صخرة، يعجبه العود ويقرر أنه يصلح ليكون قوساً يرمي بها السهام، أحياناً نتخذ القرارات في لمح البصر، لكننا نحتاج لتنفيذها إلى مئة عامٍ كاملة.
لكن "الكسعي" لا يؤجل تنفيذ قراره، إنه يبدأ على الفور، يتعهد عوده بالغرس والسقاية والاعتناء، وعندما يشتد عوده يصنع منه قوساً، ومن أفرعه يصنع خمسة سهام، ويشرع على الفور في استعماله، فيرمي به
ليلاً خمساً من حمير الوحش فتنفذ سهامه من أجساد الضحايا لقوة عود القوس وصلابة رأس السهم، لكنه وهو يعثر على سهامه وقد اخترقت أهدافها وتكسرت رؤوسها على الصخر الصلد، يظن أنها اخطأت المسار، وأنها مجرد مشروع فاشل كغيره، لذلك ينتابه الغضب ويكسر قوسه ويرمي به إلى حيث يجدر بالأشياء المهملة أن تُرمى .
ويكتشف صاحبنا عندما تطلع الشمس أنه مخطيء، وأنه كسر قوساً لا يمكن تعويضها، فيعض أصابعه ندماً، حتى أن "الفرزدق" شاعر العرب الشهير يضرب به المثل عندما يطلق زوجته "نوار" فينشد بيته الرائع :
ندمتُ ندامة الكُسعي لما .. غدت مني مطلقةً نوار .

صار "الكسعي" إذاً مضرب مثل، وصارت قوسه الشهيرة رمزاً للثمين عندما يرخص، وللرائع عندما يزدريه قومه، ولكن، لماذا أصدّع رؤوسكم بقصة رجل مات منذ ألف سنة أو يزيد ؟ ربما لأننا لا نريد أن نندم في نهاية الحكاية، متجاهلين أننا كسرنا قوسناً عن سابق عمدٍ وتصورٍ وتصميم فحق علينا أن نعض أصابعنا ندماً في نهاية المطاف.

إن إشكالية تقدير الموقف ــــ أيها السادة ـــــ تصبح بمثابة كارثة إذا لم نحسن الفعل، وفي الوقت المناسب أيضاً . وللمزيد من التوضيح تعالوا معاً نتمعن في هذا البيت :
(( لئن كنتُ محتاجاً إلى الحلم إنني .. إلى الجهل في بعض الأحايينِ أحوجُ .))

يختلف الرواة في نسبة هذا البيت، فمنهم من ينسبه إلى محمد بن وهيب، ومنهم من يقول إنه من جملة أبياتٍ لصلاح بن جناب اللخمي، وردت في كتاب الصناعتين، وفي كتابٍ آخر اسمه "نقد الشعر" .
ولكن، مالي ولصاحب البيت مادام المعنى هو صاحب الشأن في نهاية المطاف؟، والمعنى هنا يبدو مفخخاً بعلامات الاستفهام إلى أبعد حدٍ يمكن لعاقلٍ ــ أو لمجنونٍ ــ أن يتصوره .
هل نحتاج فعلاً إلى الجهل في "بعض الأحايين" حسب تعبير البيت السابق؟ أم أن هذا كله من وحي خيال شاعر ؟

وماذا عن سؤال آخر يستمد بلاغته وقوة حضوره من العصر الحديث هذه المرة ؟ هل احتاجت الصين لتكافح فايروس كورونا إلى الجهل أكثر من احتياجها إلى سطوة الحلم وجدوى سعة الصدر وفضيلة استيعاب الموقف الطاريء، ونعمة التمكن من العلم وميزة احترام المعرفة وتبجيل أنابيب الاختبار وأجهزة المختبرات ؟

ما أكثر الأسئلة، وما أقل قدرتنا على الإجابة أيضاً .

أن تجتاحك مصيبة، فهذا يعني أن ما تملكه من سعة صدر ومساحة معرفة وسابق تجربة، كلها تصبح محل اختبار لتلك اللحظة المشحونة بالترقب والخوف والتحفز، فكيف وجدتنا مصيبة هذا المرض عندما أقبلت ؟
سؤالٌ قد تتعدد الاجابات عليه بعد عشرين عاماً من الآن، عندما يصبح في متحف تاريخٍ مضى وانقضت أيام شهوده، ولكن، ماذا عن محاولة الإجابة عليه الآن ؟

لطالما كسرنا قوسنا ..
هذه حقيقة تاريخية لا نملك إلا أن نعترف بها الآن، فالتدني المريع في مستويات التعليم، ورداءة المناهج التعليمية، وقلة الاهتمام بالمؤسسات التعليمية في مبانيها ومعانيها معاً، وحرمان الطلبة من متعة دروس الرسم والموسيقى والتعليم الميداني الذي لا يجعلهم مجرد أسرى لقاعات مغلقة، كلها أقواس كنا نكسرها تباعاً، ولم نكن نتحسر في العادة على ما كنا نستمتع بكسره كل يوم.
لطالما كسرنا قوسنا ..
استخفافنا بجدوى البحث العلمي، ونظرتنا الهزلية للباحث والمتعلم والمجتهد والمتحضر والمؤدب والمحترم والكاتب، كل هذه الكوارث كنا نفتخر بها في أدبياتنا ومجالسنا وحكايات سمرنا، لقد كنا نرمي بالعقل في مكب القمامة، وها نحن نفتش أكياسها السوداء بحثاً عنه الآن .

لطالما كسرنا أقواسنا ..
بعنا في سوق نخاسة الازدراء معانٍ كثيرة، المواظبة، والعمل الجاد، والتفاني، والالتزام، واحترام ذوات الآخرين، وتقديس حروف كلمة الوطن، وأخيراً، تبجيل الوقوف منتظرين أمام إشارة حمراء على مفترق طرق .

لطالما كسرنا اقواسنا ..
استبدلنا كل هذه القيم الضرورية بكيس هواء كبير اسمه اللامبالاة، وطاب لنا أن نذرع بلاد الله من حولنا شرقاً وغرباً دون أن نعود منها بدرسٍ نتعلمه، بل كنا نحرص على الاستهانة بكل شعوب الأرض من أجل أن نحافظ على أصنام جهلنا العتيدة، واستعنا في ذلك بلسانٍ لا يعرف حرمة لحدود، ولا يدرك حدوداً لحرمة، فالصيني بكل تاريخه العظيم وتراثه المذهل وممالكه العتيدة وفنونه البديعة وسوره الأسطوري، هو مجرد شاحب ضيق العينين مثير للضحك، وكل ما يصنعه من بضاعة هي بضاعة "صينية" قابلة للتلف في العادة، دون أن نسأل ولو مرة واحدة أنفسنا، أين هي صناعتنا ولو كانت قابلة للتلف .؟
أما "الكوري"، فهو بكل انجازاته التكنولوجية والتزامه الخيالي ودقته التي تدعو إلى الاعجاب، لم يكن في نظرنا سوى كائن يأكل الكلاب ويشابه نظيره الصيني في ضيق مساحة العيون، وكأننا نقيس ملائمة البشر للتفوق على هذا الكوكب بمجرد اتساع العيون .
وإذا سألت مرابيعنا العامرة بالوجبات والأحاديث السرية والعلنية، معاً فأوروبا ماهي إلا موطن للحوريات الفاتنات والمرح الماجن، فيما تزدحم أوطاننا بالعفة والمثالية والتآخي والشرف والنموذجية والقهر وأكياس القمامة .


لطالما كسرنا أقواسنا ..
حلقنا عالياً بجناحين من تبجح، وتهنا فخراً على الدنيا بقصائد الكذب، وخلقنا من أنفسنا ملوكاً مبجلين يجلسون على عروشٍ من تخلف مريع، وكنا نصرخ في وجه الدنيا كل يوم بأنها لنا، وأننا لها، حتى أننا كدنا نردد مع أبي العتاهية وهو يتزلف للمهدي قائلاً :
أتته الخلافة منقادة * إليه تجرجرُ أذيالها
فلم تك تصلح إلا له * ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره * لزلزلت الأرض زلزالها.
هكذا كان "أبو العتاهية" يكذب، وهكذا ظللنا نكذب معه، فلا هو خرج من مجلس المهدي بأكثر من جارية، ولا نحن خرجنا من مجلس الواقع بأكثر من حفنة وهمٍ مازالت تسكن رؤوسنا حتى الآن .

لطالما كسرنا اقواسنا ..
عصور مضت، ونحن نبجل الجهل، ونهرب إليه، ونتسلق جباله المنيعة، ونقدس معابد التسليم والحفظ وهز الرؤوس وقطع الألسنة والاتباع والصمت والبلادة بلا حدود.
عصور مضت، ونحن نضرب بيدٍ من حديد على روعة التفكير ودهشة الاكتشاف، ونكتم أنفاس كائن التمعن والتأمل، ونسوق علامات الاستفهام إلى ساحة إعدامٍ بشعة، ونضع أدمغة المفكرين على مقصلة الارتياب والتخوين والنبذ والاحتقار.
عصور مضت، ونحن نظن أن زمن الديناصورات لم ينته بعد، وأن العصر الحجري مازال لائقاً بهذا العالم الشاسع، وأن ثقافة ازدراء غيرنا من البشر هي الثقافة التي ترفعنا فوق البشر، وأننا لسنا ملزمين بالاختراع ولا الاكتشاف ولا البحث، مادام غيرنا من "العبيد" قد سخروا حياتهم لفعل ذلك، فنحن مازلنا في ذلك الكهف الذي شيده لنا "عمرو بن أبي كلثوم" ببيته المتبجح ذاك منذ ألف سنة من الآن :
وَنَحْنُ التَّارِكُوْنَ لِمَا سَخِطْنَـا * وَنَحْنُ الآخِـذُوْنَ لِمَا رَضِيْنَـا
عصور مضت، ونحن الأفضل والأكمل والأجمل، ولكن، داخل أبيات معلقة ابن ابي كلثوم فقط .
والآن، هل يجوز لنا أن نندم كما فعل الكسعي عندما كسر قوسه؟ أم أن هذا الفايروس الضئيل قد علمنا درساً يليق بما نملكه من تبجح وغرور، فها نحن نجلس على عتبة باب الصبر ننتظر أن تنتج لنا معامل "العيون الضيقة"، ومصانع أدوية "أرض المجون والفاتنات الشقر" مصلاً ننقذ به أرواحنا لعلنا نعود إلى قصائد الفخر من جديد .

وقبل أن نقفل معاً باب هذه المقالة، لن أنسى أن نتذكر ما أبدعه "بول أوستر" في روايته "اختراع العزلة" عندما كتب :
(( أنه لو كان صحيحاً أن العالم ينطبع في أذهاننا، فإنه من الصحيح أيضاً القول إن تجاربنا بدورها تنطبع على العالم . ))

ولعل هذه العبارة المؤلمة تجعلنا نتساءل في ركن خفي نلوذ به : وماذا قدمنا في هذا العصر من تجارب لتنطبع على العالم ؟
الاجابة طبعاً مؤلمة ومخيبة إلى حدٍ لا يتصوره أحد، مما يجعلنا نبحث عن الفرزدق ولو بعد 1288 سنة من وفاته، مرددين معه وبلغةٍ يجيدها الحزن فقط :
ندمتُ ندامة الكسعي لما .. غدت مني مطلقةً نوار .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. على خطى حماس وحزب الله.. الحوثيون يطورون شبكة أنفاق وقواعد ع


.. قوة روسية تنتشر في قاعدة عسكرية في النيجر




.. أردوغان: حجم تجارتنا مع إسرائيل بلغ 9.5 مليارات دولار لكننا


.. تركيا تقطع العلاقات التجارية.. وإسرائيل تهدد |#غرفة_الأخبار




.. حماس تؤكد أن وفدها سيتوجه السبت إلى القاهرة