الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هواجس كخبز القربان

بديع الآلوسي

2020 / 3 / 25
الادب والفن


حللنا على فرنسا كلاجئين نهاية 1989 ودخلنا باريس كمغتربين ، في الايام الاولى لوصولنا زارنا الرسام (صلاح جياد) حاملا معه علبة الوان مائية اهداني اياها قائلا : قد تحتاجها .. هذا الكرم والمبادرة قد تركتا اثرا في نفسي ، واحتفظ بتلك العلبة الى حد الان ، لا لشيء سوى لانها تحمل رائحة صلاح … مع مرور الايام والسنين صارت معرفتي به تتعزز ، ودأبت على رؤيته واللقاء به في ساحة مومارت للفنانين ( Place du tertre ) ، كنت حين اراه اشعر بدفء الأشياء وحميمية الصداقات ، نسرق قليل من الوقت ، و نحتسي معا ً البيرة في البار الملاصق للساحة ، كان صلاح يدخن بهدوء ويتعامل مع الحياة بتفاؤل كمن روحه لا تزال طرية لملاقات حبيبة سرية ، كنت اذكره بمخاطر السجائر ،لكنه كان يجيب : اذا فقأت عين الموت تلاشى الخوف .
لم تكن بالنسبه له تخطيطات البورتريت التي كان ينجزها في الساحة عملا فنيا ً ، حين سألته : ما الذي يجبرك على مزاولة هذه المهنة ؟
كان رده يحمل الفكاهة وهو يقول بلهجة عراقية محببة :
ــ الواحد يصعد يزينله راس راسين احسن من الكعدة بالبيت
ـ وهل هذا من أختياراتك ؟
اجاب وهو ينظر الى السماء : لا انها جزء من ضرورات الحياة .
كنت ارى العراق ينعكس في عينيه اللتان تزوغان بعيدا ً وهما تحدقان في ما يخفيه المكان من وداعة او جفاء ، اشعر انه يصر على مواصلة الحياة كطفل يرى السيرك لاول مرة ، او كمن تبدو له الحياة كطائرة الورقية يمسك بها وهي تقاوم الريح .. يتبادر الى ذهني أن كل شيء له فائدة ما ، اعتقد ان صلاح كان له نفس الهاجس حين قال لي : حاول ان تبدع ما تراه مناسبا ً سيجد له صدى في روح ما .
وبدأت اهتم بمنجز صلاح ، واعني لوحاته التي تمازج على نحو محكم بين التعبيرية والتجريد ، وصرت ارى فيها تشكيلا ً ينتمي الى الفن المقاوم ، فهي ضد الجرائم الفضيعة التي تطال البشر الطيبين ، لوحات فيها الايقاع والعنفوان والجمال والصرامة وقوة الخط وبهجة اللالوان . كنت يا صلاح مثل محارب يقاوم الكراهية او كمن يريد ان يبرهن للاعداء ان الخير سينصر على الاشباح والجشع . كما قال لي يوما ً : سنرحل عن هذا العالم ، وستبقى اللوحات كأجمل اثر ..
كانت لوحاتك تحمل في طياتها حمى الروح ، وما هو ضروري من أسئلة تحفز المشاهد على الأطالة والتأمل ، تثيرني لوحاتك يا صلاح ، ومن دلالاتها انها لا تعرف الحياد فهي تنتمي الى المجزرة الى عذابات انسانية او الى وطن يذبح يوميا ً بسبب التخلف والجوع والفساد والطائفية . كنت بيننا كفارس تحسي الويسكي على مهل ، كنت وطنيا ً من الطراز الأول، وكنا لم نتوقع انك ستفارقنا في الزمن الذي نكتب به قصائد عن حب في زمن الكورونا ، لا من احد كان يخمن ان تكون جنازتك تقتصر على بعض الافرد المقربين جدا ُ ، مؤلم كل ذلك لانه لم يناسب قامتك او مقامك ..
نم قرير العين ، كلنا نحبك
ونكتب حروف اسمك على قمرنا
كي تبقى روحك تلعب مع الغيمات
نم قرير العين ، كلنا نجلك ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا