الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رأيٌ في .. ماهية النهضة؟!... (الجزء الثاني) : مراحل التاريخ المختلفة!

خلف الناصر
(Khalaf Anasser)

2020 / 3 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


((فأهم درس تعلمنا النهضة الأوربية هو ، أن النهضة مرحلة انتقال تاريخية وليست مشروعاً سياسياً أو تنموياً))(ج1)
ومن دروس النهضة الأوربية أيضاً والنهضات المماثلة التي حدثت في التاريخ ، أو التي تحدث الآن في جنوب شرقي آسيا كالصين وغيرها ، يمكننا أن نرى للنهضة وجوهاً متعددة ، لكنها موضوعية في جوهرها :

 فهي من ناحية : تبدو وكأنها عبورٌ لـ خانق تاريخي تمر به أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات أو محيط انساني أوسع ـ كالمحيط العربي أو الاسلامي أو الدول النامية والمتخلفة برمتها مثلاً ـ وبدون هذا العبور التاريخي يمكن لتلك الأمة أو ذلك المحيط الإنساني أن يضمحلا ويتلاشيا ، ويمكن لمجتمعاتهم أن تتمزق وتتفتت!

 ومن ناحية ثانية : تبدو النهضة وكأنها المرحلة القلقة المضطربة بين عصريين مختلفيّن ـ قديم وجديد – وعالمين متناقضيّن وحضارتيّن متضادتين بينهما اشتباك عنيف ، لكنه عديم الملامح!

 ومن ناحية ثالثة : تبدو النهضة فيها ، وكاستحقاق تاريخي أوجبته سنن تطور التاريخي للأمم والمجتمعات أو لمحيط إنساني بعينه ، في الجوانب الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية....الخ بعد أن أصبحت قيم ذلك المجتمع وتقاليده وأفكاره وعلاقاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية قديمة ومتهرئة ، تجاوزتها الاحتياجات الموضوعية لمجتمع تلك الأمة ومحيطها الانساني .. ومن هنا تأتي النهضة لتؤدي هذا الدور التجديدي: الاجتماعي والفكري والسياسي في حياة الأمة ومجتمعها ومحيطها الإنساني!

والحقيقة أن النهضة قد تلعب كل هذه الأدوار التاريخية وتلعب معها أدواراً أخرى غير مرئية ، تغطي مضامينها كل تشعبات وخلايا ومفاصل الحياة الاجتماعية والوطنية والقومية ، لأمة من الأمم أو لشعب من الشعوب أو لمحيط إنساني أوسع ، يشمل جنساً من الأجناس البشرية بكامله ، وبغض النظر عن الدين والمذهب والمعتقد:
فالنهضة الأوربية التي كانت نهضة للجنس الأبيض بكامله ، والنهضة الحالية للجنس الأصفر كالصين وكوريا وسنغافورة وماليزيا....إلخ ، وبغض النظر عن دين الأمة الناهضة ومذهبها ، فالصين بوذية وكونفوشسية وكذلك كوريا وسنغافورة ، بينما ماليزيا أمة مسلمة!!
وسواءً اعتبرنا النهضة استحقاقاً تاريخياً أو مشروعاً إحيائياً أو عبوراً لخانقِ اجتماعيِ تاريخي ، فإنها في المحصلة تعني نهضة أمة ومجتمع ومجموعة بشرية كبيرة نهضة شاملة!
والنهضة الشاملة تعني تجديداً وتحديثاً شاملاً للأمة ومجتمعها ـ وأحياناً لمحيطها البشري الأوسع ـ في جميع مجالات الروح والفكر والقيم والمعارف والمفاهيم وجميع منظوماتها المختلفة ، وكذلك في نظرتها إلى ذاتها وإلى الآخر وإلى الوجود والكون بأكمله .
*****
إن كل الذي تقدم هو محاولة لتوصيف النهضة وبناء إطار عام لمضمونها في العموميات دون التفاصيل ، وبالتأكيد أن هذا الإطار العام فيه تفاصيل كثيرة غائبة ، تبقي سؤال النهضة الجوهري.. مــا هـــي الـــنــهــضــة قائماً؟

وأهم العناصر الغائبة عن هذا المضمون عنصران جوهريان هما :
الــتــاريــخ .. ثم دور الإنسان وإرادته في النهضة!
فالأمة والمجتمع وأية مجموعة بشرية أوسع ، وفي أية مرحلة من مراحل التاريخ المختلفة ، هم جميعهم نتاج التاريخ وقوانينه الصارمة ، بما فيها حالات التقدم والتخلف ، والنهضة أيضاً.. فلا نهضة خارج التاريخ .. ولا خارج سلطته!

وفي التاريخ تكمن المأساة والحل أيضاً:
ففي التاريخ تتجذر أهم مقومات النهضة!
كما تتجذر فيه أهم معوقاتها!
ففي التاريخ القيم والمبادئ والتجارب الإنسانية ، التي تصلح كمحركات جبارة لنهضة شاملة!
وفيه أيضاً القيم المضادة والكابحة للنهضة والمعرقلة لتبلورها وتجليها ، والتي تجعلها في أكثر الأحيان تدور في حلقة مفرغة!
والتاريخ حتماً سيجرنا إلى أسئلة جديدة في النهضة .. من قبيل:
كل الأمم تريد أن تنهض وأن تتقدم ، لكن ما الذي يقف بينها وبين تحقيق إرادتها هذه؟
وهل أن النهضة منوطة بالإرادة وحدها؟
فإذا توفرت هذه الإرادة ، فهل يمكن أن توضع النهضة كجدول أعمال – من بنود كذا وكيت – ثم تنفذ ، وبعدها تصبح حقيقة معاشة في حياة أمة أو مجتمع أو محيط إنساني أوسع؟
أم أن للنهضة شروط واشتراطات ومقومات تاريخية ، تجعل منها لحظة تاريخية فريدة قائمة بذاتها ، ولا يمكن لأمة أن تحقق نهضتها وتعبر إلى الضفة الأخرى من الحياة ، إلا وفق شروطها واشتراطاتها التاريخية؟
*****
ومن هذه الأسئلة نريد أن ندخل إلى موضوعة النهضة في بعدها وإطارها التاريخي ، ولكي يكون دخولنا هذا ممكناً علينا أن نرسم ــ دون تفلسف أو تشعب ــ خارطة بسيطة لمسيرة التاريخ الإنساني ــ من وجهة نظرنا نحن ــ ودور النهضة فيها .
وباختصار شديد:
معروف أن هناك تفسيرات كثيرة للتاريخ يمكن الأخذ بها ، وسواءً أخذنا بالتفسير المثالي للتاريخ الذي قال به الألماني (هيجل) مثلاً ، أو بالنظرية الجغرافية أو النظرية البايلوجية في تفسير التاريخ ، أو أخذنا بالنظرية الماركسية واعتبرنا التاريخ تاريخاً طبقياً وصراع لطبقات اجتماعية :
فإنه ـ أيضاً ـ لا يمكن لطبقة اجتماعية أن تنتصر على طبقة اجتماعية أخرى في هذا الصراع الطبقي ، إلا من خلال ارهاصات ومقدمات تمثلها (نهضة كبرى) للطبقة الاجتماعية القادمة ، التي بلورها التاريخ والصراع الطبقي المحتدم بين طبقات المجتمع ، والتي ستنتصر حتماً في هذا الصراع وتصفي الطبقة المهزومة وإرثها الاجتماعي ، وتفرض هيمنتها على المجتمع ككل .. فالنهضة الأوربية التي في حقيقتها كانت نهضة للبرجوازية الأوربية!

وسواء أخذنا بأيٍ من هذه النظريات ، أو أننا اعتبرنا التاريخ تاريخاً عاماً أو صورياً تمثله ظواهر ومراحل تاريخية كبرى واضحة جداً في التاريخ الإنساني ، وهذا التفسير ما نحبذه نحن ـ لأغراض دراستنا هذه ـ لأنه يعطينا صورة أوضح لدور النهضة في التاريخ .. ووفق هذا التفسير يمكننا أن نرصد في التاريخ البشري ثلاث مراحل تاريخية كبرى ، مرت بها مسيرة تاريخ الإنسانية العام ككل ، ومسيرة كل أمة ومجتمع ومجموعة بشرية على حدة .. فيمكننا أن تسمية تلك المراحل التاريخية الكبرى مبدئياً ...... بــأسماء :
(1) المرحلة الفطرية:
(2)المرحلة الدينية:
(3)المرحلة القومية .

أولاً: المرحلة الفطرية:
وقد كان بودنا ــ لو كان هذا ممكناً ــ أن نرسم خارطة لتاريخ الإنسانية تبدأ من أول نقطة بدأ فيها تاريخ الإنسان ، ولأن هذا مستحيلاً تقريباً ، فعلينا أن نقول ـ عوضاً عنه ـ وباختصار شديد ، إن أبعد نقطة في التاريخ يمكن الوصول إليها نظرياً .. هي :
عندما ما كان الإنسان والطبيعة كلاهما صفحة بيضاء ، وبدأ التاريخ في اللحظة التي بدأ فيها الإنسان يخط آثاره على صفحة الطبيعة البيضاء تلك........ فكانت آثاره:
إنجازاً حضارياً وصيرورة إنسانية للإنسان نفسه!
صيرورة جعلت منه مخلوقاً بشرياً [باختراعه: للــغــة . فــكــر . قــيــم . تصورات كونية ، ودينية ودنيوية......إلخ] بعد أن كان مخلوقاً بهيمياً!
وبهذا الانجاز العظيم ، أضاف الإنسان إلى الطبيعة (عناصر جديدة) لم تكن موجودة فيها (بــشــكل حـــر) من قبل ، وبهذه العناصر الجديدة التي خطها الإنسان نفسه على وجه الطبيعة البيضاء:
فبدأ بها الإنسان مسيرته!
وبدأ بها ومنها التاريخ الإنساني ككل حركته!
وكانت هي بداية لتاريخ الإنسان ، وهي أبــعــد نــقــطـــة فــيــه!

وبنقطة البداية هذه التي خطها الإنسان على وجه الطبيعة تغير وجه الطبيعة ، وتغيرت حياة الإنسان نفسه ، وأخذت صيرورته الإنسانية بالتكون والتبلور .. فنقلته نوعيا :
من فرد وحيد متوحد متوحش هائم على وجهه!
إلى عائلة وحياة اجتماعية بسيطة ضمن مجموعة بشرية صغيرة!
ثم توسعت هذه المجموعة البشرية الصغيرة فيما بعد إلى قبيلة!
وبعدها توسعت هذه القبيلة وتشعبت إلى قبائل كثيرة!
ثم تطورت هذه القبائل بمجموعها إلى أمم و شعوب ومجتمعات كبيرة تملأ كوكب الأرض اليوم!

أي أن الإنسان في هذه المرحلة الفطرية اخترع لغته (أداة التفاهم والتفكير) وقيمه وطقوسه ومفاهيمه عن نفسه وعن الكون والخليقة والوجود والحياة....إلخ ، فتكونت بها ثقافته وحضارته البدائية الأولية ، ومن ثم شخصيته المميزة ، وبكل هذا وضع البنية التحتية لأمة ستكون في المستقبل!

ثانياً: المرحلة الدينية:
وهي المرحلة التي تكاملت بها إنسانية الإنسان!
وتفككت بواسطتها عزلته عن الإنسان الآخر وانغلاقه على ذاته وقبيلته وحدهما ، وانفتاحه على ذوات إنسانية أخرى خارج القبيلة والعشيرة ، وانفتاح على الإنسان الآخر لأنه إنسان ، وليس لأنه أبن عشيرته أو أبن قبيلته!
فالإنسان أخو الإنسان: هكذا تقول الأديان السماوية .. وهكذا تعلم!
ففي هذه المرحلة الدينية تتوسع آفاق الإنسان ، وتتطور نظرته الدينية وجملة مفاهيمه وتصوراته ومعارفه البدائية ، وترتقي من المحلية إلى أفق كوني واسع.. كون خلقه ويحكمه إله واحد ، وليس آلهات متعددة!
وهكذا تعاد صناعة الإنسان وحياته الروحية من جديد في هذه المرحلة الدينية ، وتقنن علاقته بالسماء وبالإنسان الآخر وبالكون ككل ، وفق قيم ومفاهيم جديدة علمتها إياه الأديان السماوية أو الإبراهيمية!

والمقصود بهذه المرحلة الدينية هي الأديان السماوية أو الإبراهيمية بالتحديد ، ثم تليها الأديان الوضعية الكبرى كالبوذية والهندوسية والكونفوشيوسية ، التي استقرت عليها نصف شعوب الشرق ، وليس مقصوداً بها الأديان الفطرية البسيطة الساذجة ، كالطوطمية والعبادات السرية وما شاببهما .

ثالثاً: المرحلة القومية:
وهي آخر مراحل التطور التي وصلها التاريخ البشري وأكثرها تقدماً ، والتي نعيشها اليوم في عصورنا الحديثة هذه . وتأتي هذه المرحلة كحصيلة لتفاعل وتمازج وتداخل جميع عناصر المرحلتين السابقتين ببعضهما مضافاً إليهما مستجدات حياة الإنسان وتفاعلاتها ومتطلباتها الموضوعية ، بحيث أدى هذا التمازج والتفاعل الكثيف بين العناصر المختلفة ، إلى خلق عناصر تكوين وصيرورة جديدة للإنسان نفسه في حدود أمة ومجتمع معين ، وأدت بالنتيجة إلى تكامل المقومات والعناصر الأساسية لكل مجموعة بشرية ولكل شعب وأمة ضمن هذه المجموعة البشرية ، فتكونت من مجموعها جميع الأمم والشعوب والمجتمعات الحديثة ، التي تملأ اليوم كوكبنا الأرضي على سعته!
ونتيجة لهذا التمازج برزت إلى الوجود الشخصية القومية المستقلة والدولة القومية والثقافة القومية ، المميزة للأمم والشعوب والمجتمعات الإنسانية المختلفة!
أي أن :
مسيرة التاريخ الإنساني برمتها ، وفي جميع أطوارها وحقبها وعصورها ، تمخضت عصارتها النهائية وأنتجت جميع الأمم والشعوب والمجتمعات الحديثة ، التي نراها اليوم على ظهر كوكب الأرض ، وكذلك أنتجت الحضارات الإنسانية ـ كناتج عرض ـ لبحث الإنسان الدائم والدائب عن الأمن والأمان والحياة الأفضل!!

ودور الـــنـــهـــضـــة فــــي الــتــاريــــخ .. يشبه :
دور القـــــــــــــــارب الذي تنتقل به الشعوب والمجتمعات بين هذه المراحل التاريخية المختلفة ، والنهضة في البداية تماثل دور (الصاروخ الفضائي) الذي تكون مهمته الأساسية (الاقـــــــلاع) بالمركبة الفضائية ، والافلات بها من جاذبية الأرض الشديدة!!
وكذلك (النهضة) دورها الأولي هو أيضاً (الإقــــــلاع) بالأمم والمجتمعات والشعوب من جاذبية (المرحلة التاريخية السابقة) الشديدة الجذب ، والافلات بها إلى رحاب مرحلة تاريخية جديدة!!

(يــتــبـــع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعات عراقية للمطالبة بوقف الحرب في غزة


.. مشاهد من لحظة وصول الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى قصر الإليزيه




.. فيضانات وسيول مدمّرة تضرب البرازيل • فرانس 24 / FRANCE 24


.. طبول المعركة تُقرع في رفح.. الجيش الإسرائيلي يُجلي السكان من




.. كيف تبدو زيارة وليام بيرنزهذه المرة إلى تل أبيب في ظل الضغوط