الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظاهرة المؤقتين الجدد وضمور المرجعية الوطنية (2-4)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 3 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


المرحلة الانتقالية: ميدان الزمن الضائع والنخب الرثة


فمن المعلوم أن الرشوة والابتزاز كانتا تشكلان الأدوات العملية لآلية فعل وبقاء وعمل الأجهزة المتعددة والسائبة للمرحلة الدكتاتورية الصدامية. فقد كانت الرشوة والابتزاز أدوات الربط الفعلية لأجهزة السلطة والداعمة لديمومتها. وهو واقع جعل من العراق في المرحلة الدكتاتورية مزاد الرشوة والابتزاز. وفي هذا الواقع وبقايا استمراره ينبغي البحث عن آلية التحكم والتسلط. وفيه أيضا ينبغي رؤية ارث الموروث في ظهور واستفحال المؤقتين. وذلك لان الإرث الأكبر للتوتاليتارية بهذا الصدد يقوم في إفراغها الفرد من وسطه الاجتماعي، بحيث جعلت منه مجرد أداة فارغة لا هم لها سوى الهموم الصغيرة، وحاصرته بالشكل الذي جعلته مستعدا لاقتراف الرذيلة مهما كان حجمها دون أي شعور بالذنب في الوقت الذي يصلي فيه ويصوم. وهي حالة أكثر تخريبا وتدميرا لأنها تجعل من «الروحي» عاملا إضافيا في تزييف أفعاله. مما أدى في النهاية إلى إفراغ الإنسان من محتواه الاجتماعي والوطني وجعله كيانا سائبا ومؤقتا في الأقوال والأفعال والهواجس والأحاسيس والعقل والضمير والشك واليقين.
بينما تفترض الدولة والمجتمع والثقافة والفرد والجماعات نوعا مناسبا من الثبات. فالدولة تفترض ثبات مؤسساتها، والمجتمع يفترض ثبات قواعد العيش والعمل بموجبها، والثقافة تفترض ثبات مرجعيات الإبداع الحر، ووجود الفرد يفترض ثبات كينونته الاجتماعية، كما يفترض وجود الجماعة ثبات قدرتها واستعدادها على التطوع والاختيار. بينما كان الثابت، أو مطلق التوتاليتارية والدكتاتورية هو المؤقت في كل شيء. مما جعل منها مجرد آلة مخربة لكل شيء وفي كل شيء. من هنا انتقال نفسية وذهنية وآلية المؤقت بكامل عتادها، كما نراه بوضوح في عمل الإدارات الموروثة. فهي نموذج للفساد والإفساد والخراب والتخريب، يستحيل معها بناء العراق الجديد. كما يستحيل بناء دولة قوية على أسس هشة وإرساء أسس الفضيلة على الرذيلة.
وهي المقدمة التي جعلت الكثير من الأحزاب السياسية «الكبرى» والناشئة حديثا أسيرة نفسية المؤقت، كما نراها بوضوح في «النشاط المحموم» لجميع القوى السياسية، المكونة لمجلس الحكم الانتقالي في ممارسة «تداول السلطة» و«المحاصصة». وإذا كان لهذه الظاهرة ما يبررها من الناحية التاريخية والسياسية، فان تحولها إلى أسلوب «المساومة السياسية» كان الخطوة الأولي وغير المرئية لترسخ وتوسع وتعمق وتأسيس نفسية وذهنية المؤقتين الجدد في عراق ما بعد الدكتاتورية الصدامية. وليس غريبا أن تتفاقم منذ ذلك الوقت ظاهرة النهم «غير الطبيعي» عند النخب والأحزاب السياسية «الكبرى» كما لو أنها قوة غازية خارجية. وهي حالة لا تصنع في الواقع شيئا غير حالة المؤقت في كل شيء، كما نراها بجلاء في النخبة السياسية السائدة حاليا. وفي هذا تكمن طبيعتها المفارقة بشكل عام وفي حالة العراق بشكل خاص.
فمن المعلوم، أن المفارقة الذاتية للمؤقتين، أي لأولئك الذين لا تربطهم بالماضي سوى علاقة الاستلاب المعنوي، وبالحاضر سوى علاقة السرقة المادية، وبالمستقبل سوى علاقة اللامبالاة المطبقة، تقوم في كونهم يجهلون حقيقة التاريخ، مع أنهم أكثر من يتطفل على مسرحه السياسي العلني. وعادة ما ترم هذه المفارقة إلينا مجريات وأحداث المراحل الانتقالية، بوصفها «الحلقة» المفقودة من تاريخ الأمم. وذلك لأنها عادة ما تتخذ صيغة الزمن الضائع، أو الزمن الذي تتداخل فيه الرؤية التاريخية المتفائلة ومصالح الأحزاب السياسية والكتل الاقتصادية الضيقة.
فقد عانت الشعوب والأمم والدول جميعا من هذا القدر ومازالت تعاني منه حالما مرورها بمرحلة الانتقال. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار طبيعة ونوعية وأسلوب الانتقال العاصف الذي يمر به العراق حاليا، فسوف يتضح حجم وسعة القوى المستعدة لان تكون مؤقتة، أي عابرة في مجراه، ككل أولئك الذين يجرون يوميا مثلهم مثل عابرو السبيل في طرقات تعادل كمية وحجم المطامع والمصالح ومتطلبات الحياة أيضا. غير أن للحياة كما هي، والسياسية كما هي، مقدمات ونتائج مختلفة، مع أنهما يلتقيان في نهاية المطاف فيما ندعوه بالمصير التاريخي للأمم.
ويقف العراق حاليا أمام هذا المصير. بمعنى وقوفه أمام كيفية عبور مرحلة الانتقال بالشكل الذي يجعل من حياته وحياة أفراده وجماعاته وطوائفه وقومياته جزءا فعالا وعضويا في صنع قواعد الثبات الضرورية في الدولة والمجتمع والثقافة. مما يجعل من مرحلة الانتقال هذه مرحلة صراع عنيف. وذلك يسبب كونها المرحلة التي تطرح فيها للمرة الأولى في تاريخ العراق الحديث إشكالية «المؤقت» و«الثابت» تجاه فكرة الدولة والسلطة والمجتمع والقانون والدستور. ذلك يعني أنها المرة الأولى التي تطرح فيها قضية الثابت والثبات في كل ما هو ضروري لجعل الزمن تاريخا. ومن ثم تحرير التاريخ من أن يكون مجرد تيار عابث في المصير.
وهي حالة ليست غريبة أو مستغربة. فالتطور التاريخي للأمم يجبرها بالضرورة أن تقف أمام إشكالية الثبات والثابت في مكونات وجودها. كما أن تجارب التاريخ ومصير الأمم والحضارات تبرهن على أن عدم الإجابة على هذا السؤال في الوقت المناسب يؤدي بالضرورة إلى انقراض الدولة وخمول الأمة أو غيابها من مسرح التاريخ العالمي. وتعطي لنا هذه الحقيقة إمكانية رؤية تاريخنا الذاتي بمعاييرها. لاسيما وأنها ليست المرة الأولى التي يقف أمامها العراق، شأن كل تاريخ عريق في المدنية. ففقد شقت هذه الحالة لنفسها الطريق في كل تاريخنا القديم والمعاصر كما هو الحال بالنسبة لتاريخ الأمم جميعا. وفيها وحولها تتكتل القوى المؤقتة والدائمة، التي يتحصن كل منها بيقينه الخاص. المؤقت يعتقد بأنه لا شيء غيره وأن ماله وسلطته هو الشيء الوحيد الحق. بمعنى أنه يعيش بمعايير ومقاييس المؤقت أو الرؤية «الجاهلية». وهي رؤية لا تصنع في نهاية المطاف غير منظومة العبث، التي شكل تاريخ العراق الحديث، وبالأخص في مجرى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين نموذجها التام. كما برهن في الوقت نفسه على أنها مجرد هباء. وفيه نعثر أيضا على اعتراف وتقرير ضمني بان الشيء الوحيد الباقي هو الحق، بوصفه المرجعية المتسامية عن الابتذال مهما كان شكله ولونه ومعتقده. وسبب ذلك يقوم في أن «المؤقت» لا يصنع تاريخا. ومن ثم فهو عرضة للزوال المحكوم أما بعقوبة النسيان أو عقوبة القانون. وكلاهما من أصل واحد ونتيجة واحدة تؤدي بالضرورة إلى رميه أما إلى «سلة المهملات» وأما إلى سجون الفضيحة. وهي حالة «برهن» عليها الزمن التوتاليتاري للدكتاتورية الصدامية بصورة نموذجية لم يعرفها تاريخ العراق منذ أن هجّ جلجامش باحثا عن الخلود في براريه وأهواره. ويرمز هذا البحث إلى أن حقيقة الخلود في العراق ينبغي البحث عنها في براريه وأهواره وليس في ردمها وتجفيفها. وهو أمر يفترض كحد أدنى الارتقاء إلى مصاف الاندماج الوجداني بالخالد فيه، أي المجرد عن كل ما يمكن ابتذاله في الأقوال والأعمال.
بينما تكشف الأحداث السريعة والدرامية ما بعد سقوط الدكتاتورية عن أن اغلب القوى السياسية الكبرى لم ترتق بعد حتى إلى مصاف الرؤية السياسية النفعية القائمة وراء تحسس قيمة الاندماج بالخالد فيه. من هنا ظاهرة النهم «غير الطبيعي» عند النخب السياسية والأحزاب كما لو أنها قوى غازية خارجية. فالأحزاب القومية الكردية تريد سرقة شمال العراق، والأحزاب الشيعية تريد سرقة الشيعة، والنخب السنية تريد سرقة السلطة من جديد، والشيوعيون يسرقون عموما، والليبراليون يشاركون الجميع بالسرقة، والمستقلون يسرقون لحالهم!
بعبارة أخرى، إننا نقف أمام حالة غريبة ولكنها واقعية من حالات فقدان السيادة التي رفعت شعاراتها الأحزاب السياسية الكبرى ونخبها! وهي مفارقة مترتبة على عمق «غريزة المؤقت» في نفسيتها وذهنيتها. ذلك يعني أننا مازلنا نقف أمام نفس المعضلة الكبرى التي يعاني منها تاريخ العراق الحديث، ألا وهي كيفية الانتقال من الدهر الساري إلى الخلود، ومن الزمن إلى التاريخ، ومن المؤقت إلى الدائم. وهي إشكالية تشكل لب ومضمون الدولة الشرعية والمجتمع المدني والنظام الديمقراطي، أي مضمون كل الحركة الكبرى التي ميزت واقع وآفاق المأساة الوجودية للعراق المعاصر نفسه.
فقد تراكمت جذور وبذور وثمار هذه المأساة في مجرى الانحراف عن المسار الطبيعي للدولة ومتطلباتها العصرية، والتي بلغت ذروتها في مرحلة السيطرة التوتاليتارية للبعث الصدامي، التي لم تبق في العراق غير ركام الحطام المادي والمعنوي في كل مرافق الوجود الضرورية. بحيث تركت إرثا هائلا من الخراب الشامل في كل شيء. ورّحلت إلى ما بعدها ولفترة طويلة نسبيا حالة ونفسية وذهنية المؤقت في الأفراد والأشياء والحياة ككل! إذ يثير هذا الواقع بهذا الصدد ثلاثة أسئلة كبيرة وهي: لماذا لم يتحول الزمن عندنا إلى تاريخ؟ ولماذا يجري إعادة إنتاج النخب المؤقتة؟ ولماذا فرّخت الأحزاب السياسية الحالية هذا الكم الهائل من المؤقتين بين صفوفها؟ (يتبع..؟.).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات