الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شيء أحمر كالقلب

علي دريوسي

2020 / 3 / 28
الادب والفن


وصلا صباحاً إلى أحد مَحلاَّت ألدي التجاريّة الشهيرة لشراء ما يلزمهما لتناول الفطور في مكتب العمل، ولأنهما محكومان بالوقت، وبسبب نَزِقَها الصباحي غريب الأطوار، فضّلت صديقته الشابة هيلغا انتظاره قرب صندوق المُحاسبة، دخل البروفيسور أحمد مسرعاً واشترى ما اِحتاجاه، وضع أغراضه التي تسوَّقها في سوبر ماركت ألدي على السير النقّال ووقف ينتظر دوره كي تسجّل مُحاسِبة الصندوق، بواسطة جهاز قارئ الباركود، أسعار ما اشتراه ليدفع الفاتورة المطلوبة.

ازداد عدد الزبائن المنتظرين خلف الشاب أحمد. وقفت أمامه امرأة ألمانية ستينية مضطّربة بدت عليها معالم العَوَز واختلال الحال، في يدها اليسرى المفتوحة قليل من نقود معدنية، قرَّبت رأسها من كفها المفتوحة وبأصابع يدها اليمنى أخذت تُجري عملية العَدّ، كانت قد اشترت أكثر مما احتاجت، بالأحرى أكثر من قدرتها الشرائية.

عدَّت المُحاسِبة النقود المُسدَّدة فوجدتها ناقصة، لا تطابق السعر المُدَوَّن على الفاتورة، طلبت منها بلطف وتهذيب أن تعيد بعض ما اشترت من حاجيات كي يصبح بإمكانها دفع نقود فاتورتها دون زيادة أو نقصان. وافقت المرأة الشارية على إعادة علبتين من الشوكولا وعلبة مُرَبَّى صغيرة. بعملية حسابية تصحيحية بسيطة اكتشفت المُحاسِبة أنّ المبلغ المدفوع من قبل المرأة مازال أقل من قيمة الفاتورة بمقدار خمسين سنتاً تماماً، فأعادت إليها نقودها. زاد اللَّغَط بين الزبائن، ضغطتْ المُحاسِبة على زر صوبها تطلب به من زميلتها فتح صندوق مُحاسَبة إضافي كي تُخفِّف من ضغط الانتظار.

اِمتَعَضَ البروفيسور أحمد المنتظر لدفع فاتورته، نظر إلى ساعته بقلق، الوقت يمضي ولديه موعد هام، راحت حرارة الغضب تدبّ في عروقه، سرت فيه الحيويَّة، رفع صوته قائلاً: ألا يستطيع السيد ألبريشت مالك شركات ألدي، اليَهوديّ الأغنى في ألمانيا، أن يسامح السيدة المُسِنّة بالخمسين سنتاً المُتبقِّية من الحساب؟ لمّ لا يُخصِّص هذا الرجل في كل فرع من فروعه المنتشرة في كل قرى ومدن العالم، صندوقاً للتبرُّع في مثل هذه الحالات؟

ساد الصمت بين الزُبن المنتظرين دفع فواتير مشترياتهم، احمرّت وجتنا الشابة البائعة، توقفت السيدة الستينية عن عَدّ نقودها، خفّف الشاب أحمد من اندفاعه ولهجته قائلاً: عذراً منك أيتها المُحاسبة فأنا لا أقصدكِ شخصياً بل أقصدُ هذا العجوز الماكر ألدي، إذ عليه أن يستحي!

هنا ودون سابق إنذار ودون مُسوِّغ غادرت هيلغا المَحَلّ، كانت تراقب كل ما حدث، في هذه الأثناء حاولت الستينية إعادة ربطة خبز رخيصة، فأوقفها أحمد، مدّ يده لجيبه، دفع عنها النقود المُتبقِّية، نظر إليه الزبائن بدهشة، وَضَّبَتْ الستينية حاجياتها في عربة الشراء وتمتّمت بكلمات لم يسمعها، ودّعتْ المنتظرين متمنية لهم نهاراً سعيداً وذهبتْ.

حَضَّرت المُحاسِبة فاتورته، وضع ما اشتراه في كيس، دفع الحساب ومضى باتجاه سيارته، هناك انتظرته صديقته هيلغا، نظر إليها آملاً سماع كلمة إطراء، لكنه تفأجأ بتقاسيم وجهها الغاضبة، فتح باب السيارة وسألها عن سر اِمتعاضها: نظرت إليه ولم تجبْ. كرَّر سؤاله فأجابت هيلغا: ما فعلته لا يفعله رجل ينتمي لهذا المجتمع، لا تملك الحق بالتدخل والاعتراض، لا علاقة لك بما حدث أو يحدث مع الآخرين.

أشعل سيجارة اِسترخاء ليأخذ وقته بالتفكير، كان حزيناً لردّة فعلها، فجأة اقتربت السيدة الستينية منهما مُتردِّدة بعض الشيء، كانت ذراعها اليمنى ممدودة إلى الأمام وأصابعها مغلقة بإحكام كأنها تقبض على شيء ثمين، خاف أحمد من حركتها المفاجئة، ابتعدت صديقته هيلغا خطوتين إلى الوراء، خاطبها دون أن يسمع منها شيئاً: اِمضيْ في سبيلك يا سيدتي، لا أحتاج ما دفعته لك، فعلتُ ذلك بطيبةِ خاطر.

نظرتْ إليه بعيون راجية قولَ شيءٍ، سكتَ أحمد، تمتمتْ المرأة الطيبة شيئاً جميلاً، دعتْ له بالخير، وهيلغا تراقب المشهد المسرحيّ بحذر، فتحتْ السيدة أصابع يدها، استراح في كفها شيء أحمر قانئ يشبه القلب، بل كان فعلاً قلباً بلون أحمر. تراجع أحمد مدهوشاً خطوة إلى الوراء، حسبها مجنونة تريد عرض نفسها للزواج!

قالت السيدة: هذا القلب يرافقني منذ بضع سنين وقد نذرته هبةً لمن يفعل شيئاً كريماً لي، هو عزيزٌ على قلبي، إنْه جالبٌ للحظ، أرجو أن تقبله هديةً مني، وإذا ما أصابك حدث ما، أنظر إليه وحسب ليزول عنك الحُزْن والغمّ.

تراجعَ أحمد عن الخطوة التي تراجعَ بها بل زاد عليها خطوةً إلى الأمام وفتحَ يده اليمنى، سكبت قلبها الخشبي الصغير في يده المفتوحة، اقتربت منه بحرص وتمهُّل، ضمّها إلى صدره ووَدّعها.

نظرَ إلى عينيّ صديقته الدامعة بعتبٍ، أحسّ بندمها، اقتربتْ منه بتُؤَدَة، عانقته هيلغا واعتذرتْ منه هامسةً في أذنه: عزيزي أحمد، في الحقيقة أعجبني موقفكَ أمام صندوق المُحاسَبة، حسدتكَ في سري، تمنيتُ لو كنتُ مكانك، لم أرغبْ أن تكون بسلوكك أفضل منا، لكن هذه هي تربيتنا، سامحني.
***

اعتقال-الفصول-الأربعة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية - الشاعرة سنية مدوري- مع السيد التوي والشاذلي ف


.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال




.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف


.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج