الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كوميديات أمّي … في عيد الأم (2)

فاطمة ناعوت

2020 / 3 / 29
الادب والفن


الإثنين الماضي حدثتكم عن أمّي الجادّة الحادّة قليلة الابتسام، التي آمنت بأن الحياة “علمٌ وعملٌ”، وفقط. وأن أية دقيقة تُهدَر في غير ذلك، خسرانٌ وعدم. وقصصتُ عليكم مواقفَ طريفةً ومقالبَ أنتجتها تلك الجدّيةُ الفائقة، واليوم أكمل لكم مواقفَ أخرى.
مغارة الكنوز تحت السرير...
كانت أمي "تحظر" قراءة أي شيء خارج المنهج الدراسي من أجل التفوّق. والتفوق عند أمي يعني الدرجة النهائية؛ التي لتقبلها أمي على مضض، وكأنها طبائع الأمور. وأبدًا لم تستوعب أن 99٪ وما دونها بقليل يُعدُّ تفوقًا. هكذا أبناء برج "العذراء"؛ لا يقبلون إلا الكمال، والكمال لله. ابتكرتُ عديدَ الحِيَل لكي ألبّي شغفي بالقراءة، دون إغضاب أمي. حتى لا يقعَ "جسمُ الجريمة”: الكتاب، عُرضة للمصادرة إن أمسكت بي أمي متلبسةً بالقراءة في غير المنهج الدراسي. تجاوزتُ مبكرًا مرحلة إخفاء الكتب بين دفتيّ الكتب الدراسية. وكانت الواقعةُ الأخيرةُ كارثيةً حين قبضت أمي على "النبيّ"/ جبران، داخل كتاب التاريخ ثقيل الظلّ. وبدأت المشكلة حين دخلتُ في مرحلة "أمهات الكتب”. فأيُّ كتابٍ مدرسي بوسعه أن يُخفي بين دفتيه "الكوميديا الإلهية"، "الفردوس المفقود"، الإلياذة والأوديسة"، وغيرها؟! فكّرتُ في تمزيق الكتب إلى ملازم رفيعة يسهل إخفاؤها. لكنني خشيتُ من غضب دانتي وملتون وهوميروس! هنا بدأتُ التعرّفَ على العالم السحري الذي بنيته لنفسي تحت سريري. بعد نوم ماما و تحية المساء:"كواك كواك"، آخذُ أباجورة مكتبي، وأنزل تحت السرير، لأدخل مغارة الكلمات وأغترف من كنوز لآلئ الحروف. وكثيرًا ما استغرقني النومُ تحت السرير، لأصحو مرتعدةً الفرائص في السادسة صباحًا على صوت خطوات أمي خارجة من غرفتها، فأتحوّل إلى "شارلي شابلن"، لأخفي معالم الجريمة الليلية.
القطّة ودكتور اسطفانوس...
كانت أمي تمنعُ تربيةَ القطط في البيت لكي لا تشغلنا عن الدراسة. في أحد الأيام تعثّرت قدمي بالخطأ في قطّة تُرضع أطفالها على السلّم. وتسببتُ في التواء عنق إحدى القطط الوليدة. انهرتُ في البكاء، وحملتُ القطيطة المصابة إلى "أنكل اسطفانوس"، الطبيب البيطري جارنا في العمارة المقابلة. أنقذها وعالجها وجبّرها، ولكن دموعي لم تتوقف. فوجئتُ بأمي تسمحُ باستضافة القطة الأم وطفلاتها حتى نراعي الصغيرة الكسيرة. سعادتي ودهشتي بذلك القرار، تعادلان دهشة وسعادة "كريستوفر كولمبس" باكتشاف أمريكا. تعلّمت يومها أن الجديةَ تُخفي وراءها قلبًا ينبضُ.
جميل عطية إبراهيم….
في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2005، فاجأني الكاتبُ المصري السويسري الشهير: د."جميل عطية إبراهيم" بأن طلبَ رقم هاتف أمي! هاتَفها وقال لها: (مدام سهير، عاوز أشكرك لأنك أنجبتِ بنت جميلة فتحت لي عالم "ڤرجينيا وولف” المغلق. أنا قرأتُ رواياتها بالإنجليزية، وقرأت ترجمات رواياتها بالفرنسية والألمانية؛ وبرضو مفهمتهاش ومحبتهاش؛ رغم إتقاني للغات الثلاث! فكرهتها، وقفلت بابها للأبد. ولكن لما قرأت شغلها بالعربية بترجمة بنتك، اكتشفت قد ايه عالم "ڤرچينيا وولف" ساحر، وبدأت أعشق أدبها. أنا مَدين لبنتك بدخولي عالم وولف الجميل أخيرًا، من بوابة ترجمات فاطمة ناعوت. أشكرك أيتها الأم العظيمة.) فأجبته أمي قائلة: ( تصوّريا د. جميل خرجت الصبح للمعرض من غير ما تفطر ولا تشرب اللبن؟!) ومن يومها صار د.جميل يتندّر بتلك المهاتفة العجائبية.
العالم كله ضدّ ابنتك….
في أحد صباحات 2006، استيقظتُ على صوت أمي بالهاتف يصرخ: (العالم كلّه ضدك؟! يا نهار أسود! كتبتي ايه؟!) انتفضتُ من السرير فزعةً؛ لأنني أعلمُ عن أمي الجديّة وعدم المزاح. (مش فاهمة يا ماما بتتكلمي عن ايه؟ إهدي وفهميني!) أجابت بهلع: (مانشيت في الأهرام النهارده بيقول: “العالم يحذّر من كتاب فاطمة ناعوت الجديد!). وبدأت في قراءة الخبرَ بصوت مُتهدّج: (صدر مؤخرًا للكاتبة فاطمة ناعوت كتابٌ جديد بعنوان "الكتابة بالطباشير”. ويقول المفكرُ الكبير "محمود أمين العالم” في تصدير الكتاب: "أيـها القارئ العزيز، حـذارِ أن تصدِّقَ عنوانَ هذا الكتـاب! فكتابتُه لم تتحقّـق، كما يزعم عنوانُه، بالطباشيـر! فهي ليسـت بالكتابـة السَّطحية التي يمكن أن تُمسـحَ أو تُنسى بمجرد مغادرتِها. بل هي بالحـق كتابـةٌ بالحفـر العميـق في حقائقَ وظواهـرِ تجاربنا الثقافية القومية والإنسانيّة، التراثيـّة والمعاصـرة...”). أغفلت الجريدة وضع الكسرة تحت حرف "اللام"، فقرأتها أمي: “العالَم، بدلا من العالِم". وظنّت أن العالم ضدي.
رحم الله أستاذي الجميل "محمود أمين العالِم"، وكلّ عام وكلّ أمّ جميلة. وحفظنا اللهُ من الويل والجائحات والمحن. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.”

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال


.. عندما يلتقي الإبداع بالذكاء الاصطناعي: لوحات فنية تبهر الأنظ




.. إسرائـ.يل سجنتني سنتين??.. قصة صعبة للفنان الفلسطيني كامل ال


.. عمري ما هسيبها??.. تصريح جرئ من الفنان الفلسطيني كامل الباشا




.. مهرجان وهران للفيلم العربي يكرم المخرج الحاصل على الأوسكار ك