الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث عن عائشة: الفصل الخامس عشر/ 5

دلور ميقري

2020 / 3 / 29
الادب والفن


كان على موسي أن يستعيدَ ذكرياتِ سفرةٍ سابقة، جلب فيها شقيقته عيشو. ذلك جرى ضمن ملابساتِ مناسبةٍ جديدة، شبيهة. في هذه المرة أيضاً، استعان بقريبه الشهم، صالح. كانت السيارة تتجه بهما إلى حوران، أي على نفس الطريق، الذي سلكته قبل نحو أربعة أعوام حينَ ذهبا إلى عمّان.. ذهبا الآنَ بناءً على رغبة الحاج حسن، وكان يرغب برؤية ابنته غبَّ مرضه وإحساسه بدنو أجله.
في الأشهر الأخيرة، كان الحاج بالكاد يتمكن من مغادرة فراشه لقضاء حاجةٍ ضرورية. سارة لم تفارقه، سوى لو تحتم عليها تلبية واجب وظيفتها كقابلة. برغم حالته السيئة، قال لها رجلها مرةً مداعباً: " لو أن خدمتك عند الدولة، لأحالوك في هذه السنة على المعاش! "
" كنتُ أظنه سراً، تاريخ ميلادي، لا يعرفه أحد غيري "، ردت مبتسمة. ذكّرها عندئذٍ بوظيفته السابقة، علاوة على احتفاظه بسجلّ يحتفظ فيه بمعلوماتٍ تتعلق بعائلته. قالت عندئذٍ بنبرة جدية: " ليتك أعطيتَ بعضاً من وقتك لمسألة مهمة، تخص مستقبل الأولاد "
" تقصدين مسألة البيت، أليسَ كذلك؟ "، سألها بصوته الضعيف. لما هزت رأسها مؤكّدةً كلامه، أردفَ قائلاً: " موسي، حصل مني على منزله في الزقاق. وسأمنح حسينو ذلك المنزل، الذي اشتريته أنتِ بمالك. فيبقى هذا البيتُ لبقية الأخوة، وإنه من الاتساع بحيث يكفيهم لو تزوجوا وأنجبوا أطفالاً "
" أخشى أن يطالب غداً ابنا شقيقتك بحصة أمهم، الراحلة "
" حليمة مخبولة، أعانها الله. أما صبيح، فإنسان عاقل ويعلم أنني اشتريت لأسرته بيتاً أكبر من بيتنا هذا "، قال مقاطعاً كلامها. ثم استطردَ متجهم الوجه، وكأنما صورة مقيتة لاحت لعينيه: " وأنت تعلمين، أنني كتبتُ ذلك البيت باسم صبيح كيلا يتمكن شيخي من بيعه وصرف المال على ما اعتاده من حياة المنكر "
" القانون، يا حاج، يحكمُ بحَسَب الأوراق الرسمية لا النوايا الطيبة "، علّقت سارة متنهدةً. بقيَ رجلها صامتاً، وقد لاحَ أن المحادثة أجهدت صحته الواهنة.

***
بمجرد أن وطأت قدما عيشو الأرضَ، الممنوحة لها في بلدة بصرى، شمّرت عن ساعد الجد لإصلاحها وجعلها مناسبة للزراعة. الأرض، كانت قطعة من أملاك أسرة نورا، صديقة سارة الحميمة، وقد عرضتها هيَ على صديقتها لما علمت بعزم الابنة على العمل. عيشو العزيزة النفس والشديدة البأس، رفضت أن تربي طفلتيها إلا بمال تكسبه بمجهودها. لكنها تركت ابنتها الكبيرة في رعاية والديها، مكتفيةً باصطحاب الابنة الأخرى إلى حوران. عاشت ثمة مع ابنتها في كوخ صغير، كان معداً بالأساس لناطورٍ من أهالي البلدة، وما لبثت أن حولته لمسكن لا بأس به. مع مرور الأيام، استغلت حلولَ الربيع كي تزرع حديقة أزهار في الجهة الخلفية من مسكنها. في الأثناء، كانت قطعة الأرض قد أضحت صالحة لبذر الحبوب والخضار.
حينَ قدمَ موسي مع قريبه إلى حوران، كان موسمُ الحصاد قد آذنَ على الانتهاء. صالح، شاء أولاً التعريجَ على قلعة بصرى الرومانية، كون رفيق الرحلة لم يرها قبلاً من الداخل. في حقيقة الحال، كان كلاهما يحتاجُ لفسحةٍ من الوقت، تقلل من القلق المعتمل في نفسه. هذا تحقق لهما بمعاينة القلعة، وخصوصاً مسرحها الكبير، المحتفظ بعدُ برونقه متحدياً الزمنَ ونوائبه سواءً بسواء. تابعت بعدئذٍ السيارة طريقها إلى المكان المطلوب، وكان سائقها خبيراً بالمنطقة لكثرة ترداده عليها لإيصال الزبائن في الذهاب والإياب. ببعض العناء، تمكن أخيراً من تحديد مكان الكوخ، وما لبثَ أن أوقف السيارة بالقرب منه. أبصرا أولاً صبيةً سمراء، تطل من نافذة المسكن وقد انتابها الفضولُ على أثر سماعها صوت محرك العربة. هذه كانت خالدو، وكان عُمرها تسعة أعوام لما غادرت دمشقَ مع والدتها. بالكاد عرفها خالها، وما عتمَ أن لوحَ لها بيده مبتسماً. بهذه الملامح المنفتحة والفرحة، لاقى موسي شقيقته، التي خرجت لاستقباله وعلى سحنتها علامات الدهشة والجزع. عقبَ علمها بداعي زيارته، لم تتمكن من مغالبة دموعها.

***
في صيف عام 1930، وقبيل وفاته بأيام قليلة، خطّ الحاج حسن آخر كلماته في المجلد الكبير، الذي ملأه بأشعاره وخواطره وأيضاً بنتفٍ من تواريخ العائلة والحارة وسيرة حياته الحافلة. برغم مضي حوالي عشر سنين على تقاعده من وظيفة زعيم الحي، فإن خبرَ رحيله أذيع صباحاً من المساجد ولاقى اهتمامَ الأهالي. كانت جنازته حاشدة، ولا غرو، تقدمها العديدُ من وجهاء الحارة وبعضُ أعيان المدينة. هؤلاء شاركوا أيضاً بالعزاء، المقام في مساء ذلك اليوم في دار الفقيد. ولأول مرة ربما في هكذا مناسبة، يقفُ أحدهم ليلقي كلمة عدّدَ فيها مناقبَ الحاج حسن ونوّهَ بأياديه البيضاء على سكان الحارة والأحياء الأخرى، بالأخص في سنوات الحرب العظمى. الخطيب، لم يكن سوى الشيخ البوطانيّ، صديق الفقيد المقرب، المحتفظ بعدُ بتوقد ذهنه مع إيغاله في الشيخوخة.
في عزاء النسوة، بدت سارة شاردة اللب، لا تكاد ترفع رأسها عن الأرض سوى لتحية هذه القادمة أو تلك المغادرة. لعلها كانت تستعيدُ صوراً من حياتها المشتركة مع الرجل الراحل، المبتدئة قبل أربعين عاماً. كان الوقتُ صيفاً أيضاً، عندما قدمَ إلى دار أسرتها في الزبداني مع والدته وشقيقته، وذلك بصفة الخطيب بعدما حضرَ إليهم أول مرة بمهمة عمل. نفس تلك الفترة الزمنية المديدة، عليها كان أن تقضيها دونَ انقطاع في دمشق بين ظهراني أقارب رجلها وعشيرته وأبناء جلدته، لدرجةٍ نسيت فيها لغتها الأم. الآن، ومنذ هذا اليوم الحزين، سيتحتم عليها أن تحل في الأسرة بمحل الزوج الراحل.. الأسرة الكبيرة، التي تضم فوق ذلك ولدين ما زالا بسنّ الأطفال مع تعهدهما العملَ كالرجال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج عادل عوض يكشف كواليس زفاف ابنته جميلة عوض: اتفاجئت بع


.. غوغل تضيف اللغة الأمازيغية لخدمة الترجمة




.. تفاصيل ومواعيد حفلات مهرجان العلمين .. منير وكايروكي وعمر خي


.. «محمد أنور» من عرض فيلم «جوازة توكسيك»: سعيد بالتجربة جدًا




.. فـرنـسـا: لـمـاذا تـغـيـب ثـقـافـة الائتلاف؟ • فرانس 24 / FR