الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الليبراليون الجدد في الوطن العربي على مقاعد الحكم

محمد عبد الشفيع عيسى

2020 / 3 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


كيف نفهم واقعنا العربي الراهن، وكيف ننظر إلى الأمام ؟ هذا هو سؤال الساعة حقا.
لقد وجدنا من خلال إنعام النظر في الأحوال العربية الراهنة، ومنها الحالة المصرية، أن بلدان العالم العربى و الإسلامى، من المنظور التاريخي، قد بقيت تسبح فى بحر هائج مختلط الأمواج، من القديم والجديد طوال مئات السنين. وإن اقتصرنا على نصف القرن الأخير، أو أقل قليلا، فإننا نجد أن هياكلنا الاجتماعية، ومن ثم السياسية، امتلكت السيادة فيها خلائط متنوعة من شرائح مختلفة. ومنها الشرائح ذات النفوذ في ممارسة السيطرة الثقافية و "القهر التراثى" إن صح التعبير، فيما يسمّى بالإسلام السياسي أو الحركي من دون أن يتحقق، بالطبع، المقابل المكافيء للإصلاح الديني الذي تم في الغرب في مطلع العصر الحديث- مع التسليم بنقائصه الجوهرية. كذا نشير إلى الشرائح ذات النفوذ فى مجال ممارسة العنف المجسد و العنف "المشروع" باسم الدولة، امتدادا لميراث "أسلوب الإنتاج الآسيوي" في الشرق، مقابلا للإقطاعية في أوربا الغربية بالذات. وهنا برزت فئة العسكريين، ذات النفوذ المتوارث الطويل عبر أكثر من خمسمائة عام، تحت وطأة التحديات الخارجية، وثقل الحماية المفروضة من قبل الوجود التركى مقابل التسلط الغربى المتجه نحو "تحويل المستعمرات" كولونياليّا" أي وفق صيغة "تقسيم العمل الإنتاجي" الاستعمارية: حيث تتخصص الدول المسيطرة في الصناعةالأعلى تطورا، بينم تتخصص البلاد المتخلفة والنامية في المواد الخام والصناعات الأقل تطورا .
كما تبرز ضمن معادلة السلطة، شريحة "أهل الحكم" الذين هم في الحقيقة يعتبرون ممثلين أو وكلاء فعليين عن النتوء الطبقي المشكل من ملاك الأراضي الكبار، و كبار التجار و المستوردين وشركات السمسرة في الصفقات المالية والعقارية، وأصحاب رؤوس الأموال المستفيدين من عقود الإنشاءات والمشتروات للحكومة والقطاع العام و المقاولات "من الباطن"، و قليل جدا من الصناعيين. وقد مارس السياسيون المحترفون من "أهل الحكم"، نفوذهم، عبر التسلط المشترك مع العسكريين أحيانا، و في أحيان أخرى ارتدى بعضهم حلّة "الليبرالية السياسية" بالمعنى العام، وتارة ثالثة، لم تُعن نخب الحكم والسلطة (أو نخبة القوة Power elites بتعبير "رايت ميلز" ) بالشق السياسي والثقافي من الليبرالية ولو كانت بدون محتوى اجتماعي حقيقي، وإنما كان تركيز هذه النخب على "الحرية الاقتصادية، التي تنصرف، في التحليل النهائي" إلى حرية كبار أصحاب المصالح الاقتصادية و المحتكرة للنصيب الأوفر من الثروة والدخل الوطني. و بصورة عامة، فإن نخب السلطة تولت رعاية ممارسات الفساد المعمّم، و خاصة عبر احتكار السلطة الإدارية على المستويات المركزية واللامركزية، و كانت هذه الممارسات ومصاحباتها تمثل الظاهرة الرئيسية المركبة الطافية على السطح ، والثاوية فى العمق، فى آن معاً .
وقد تناولنا في مقالاتنا السابقة ظاهرة "العسكريين" ودورهم النافذ في معادلات السلطة في البلاد العربية والإسلامية؛ و اليوم نناقش ظاهرة "أهل الحكم" –نخبة السلطة"- من حيث الانتماء إلى ما يسمى بتيار "الليبراليين الجدد" Neo liberals، على الصعيد العالمي خلال العقود الزمنية الأربعة الأخيرة، أو أبعد قليلا.
ولقد تعملق اتجاه "الليبراليين الجدد" الذين تلبسوا أشكالاً و أثوابا جديدة، بعضها قشيب مستحدث، وبعضها قديم : ابتداء من "المحافظين الجدد"، من أضراب رونالد ريجان ومارجريت تاتشر في أمريكا وبريطانيا خلال الثمانينات و مطلع التسعينات، مرورا بتيار "المحافظين الجدد المجانين" أواخر التسعينات ومطلع الألفية، الذين مثلّهم (جورج بوش الإبن)، انتهاءً باليمين "الشعبوي" الذى حمل دونالد ترامب إلى مقعد الرئاسة الأمريكية.
فى جميع هذه الحالات، ارتفعت راية "الليبرالية الجديدة" التى تمثل المقابل لما يسمى "الكينزية"، أي مذهب تدخل الدولة، القاضي برفع مستوى التشغيل للقوى الإنتاجية وخاصة قوة العمل إلى ما يقرب من حالة التوظف الكامل. و على الضدّ من الكينزية، جاءت موجة "الليبرالية الجديدة" لتعيد إحياء أسوأ ما فى الليبرالية بشكل عام، عبر إعادة الاعتبار الكامل لمبدأ تعظيم الربحية الخاصة وتمجيد القطاع الخاص، وبالتالى "خصخصة" ما قد يكون هناك من "قطاع عام"، بالإضافة إلى استخدام سلّة السياسات المالية والنقدية لتحجيم الإنفاق العام الاجتماعى الموجه لصالح الفئات محدودة الدخل والفقيرة بالذات. و قد تم تحميل هذا الإنفاق الاجتماعي بالذات (على لسان جماعة"النقديين الجدد" بزعامة ميلتون فريدمان)، وليس الإنفاق العسكري والتسليحي- و "الإنفاق غير الضروري اجتماعيا" للطبقة البورجوازية وجهاز الدولة الممثل لها- تحميله المسئولية عن عجز الموازنات العامة، و اللجوء "الاضطراري" للسلطات النقدية، من ثم، إلى التمويل التضخمي لسد فجوة العجز، وهو الكابح لمستويات الإنتاج، مما يولد ظاهرة "التضخم الركودي" Stagflation حسب هذا الزعم.
فى ظل الليبرالية الجديدة بوجهها القبيح ، تفاقمت فى البلاد النامية المدينة أو المعسرة، التباينات الطبقية، و حدث انحراف شديد فى منحنيات توزيع الثروة والدخل الوطنى لصالح الفئات ذات النصيب الأعلى من الدخل والثروة، وذات القدرة الأكبر – بما لا يقبل المقارنة – على الوصول إلى فرص التكسب ومراكمة العوائد الخاصة، ولو من باطن جهاز الدولة عبر عقود المقاولات والأشغال العامة ، وعقود "المناقصات والمزايدات" والمقاولات الفرعية، من باطن الجهاز المصرفي– من بنوك عامة أو خاصة– عبر القروض غير المضمونة بغطاء حقيقى، وكذا الممارسات غير الصحيحة فى أسواق المال والبورصات. وتم كل ذلك فى غياب قواعد الإدارة السليمة (و ما يسمى بالحوكمة الرشيدة ) سواء على مستوى الحكومة أو مستوى شركات الأعمال وأسواق المال، ومن ثم غياب ممارسات المحاسبة والشفافية وقواعد الإفصاح المالي.
أدى ذلك في النهاية إلى إهدار المال العام، وارتفاع سقوف الاستدانة ممثلة فى الدين العام المحلى، والدين العام الأجنبى ، مقابل إفقار متزايد للغالبية الاجتماعية الساحقة (80% من السكان على الأقل).
يضاف إلى ذك فوضى ما يسمى بالتحرير ( "اللّبْرَلَة" بالأحرى) من خلال إطلاق قوى السوق باسم "الاقتصاد الحر" الذى لا يعد كونه وهماً من الأوهام عبر التاريخ. ونضيف أيضا الممارسة "شبه العمياء" لتحرير حركات رأس المال، من وإلى البلاد، دون ضوابط حقيقة. ترتب على ذلك نزح أو تدفق عكسيّ لرؤوس الأموال من البلاد النامية إلى الدول المتقدمة المستثمرة والمقرضة، بما في ذلك نقل الأرباح المغالى فيها المحققة للمشروعات الأجنبية إلى الخارج دون أن يعاد استثمارها ، ثم نقل "أصل رأس المال" بعد تصفية المشروعات .
لا ننسى، بعد ما سبق، تطبيق توصيات صندوق النقد الدولى، الذي أوكلت إليه منذ أواسط الثمانينات، مهمة "الإشراف" على سير النظام المالي الدولي، وخاصة بإزاء الدول النامية، من خلال "المشروطية" للقروض الممنوحة من أجل محاولة "تعويم" الاقتصادات الغارقة في بحر الديون. لم يتم ذلك فقط من حيث الدعوة إلى خفض سقف الإنفاق العام الاجتماعى، عبر تقليل مستوى الدعم السلعي و الخدمي، وعدم ربط الأجور بالأسعار وفق جدولة معقولة، ولكن أيضا من حيث التوصية بخفض سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، لا سيما الدولار الأمريكي، بفعل "التعويم الحر" أو "التعويم النظيف"!، دون إدارة للتعويم أصلا أو دون إدارة فعالة. و نتج عن التعويم وخفض العملات الوطنية المزيد من التضخم السعري، سواء تم قياسه بمؤشر التضخم الأساسى عبر المستوى العام للأسعار أم من خلال "الرقم القياسى لأسعار المستهلك" .
و الملاحظ أن الليبرالية الجديدة، بأبعادها السابقة، فى المجال الاقتصادي، تتم ممارستها الفجة فى غيبة الليبرالية السياسية والفكرية، كما أن الممارسات الاقتصادية لليبرالية الجديدة، بقيامها على قاعدة احتكار السلطة، وما يؤدّي إليه ذلك من الفساد المعمم و الإفقار المتزايد للجماهير، ونهب المال العام ، وتدفق رأس المال عكسياً إلى الخارج، تؤدى إلى استفزاز قطاعات متزايدة من النخبة السياسية والثقافية، و دفعها باتجاه التركيز على الليبرالية السياسية والفكرية دون ربطها الواجب بالمحتوى الاجتماعي. و المفارقة هنا أن (الليبرالية تكون ضد الليبرالية)، بمعنى أن ليبرالية الساسة "المستقلين"، والمثقفين تقف قبالة ليبرالية رجال الدولة وقطاع الأعمال الخاص، أو "تحالف" مركب الدولة – رأس المال".
ختام
بذلك نكون، في مقالاتنا الأخيرة، قد تناولنا بعض معالم الشكل التخطيطي العام لنماذج الممارسة السياسية في البلدان العربية خلال العشريات الأخيرة، فيما يمكن أن يمثل "مورفولوجيا" الظاهرة السياسية، ضمن ما أطلقنا عليه "مربع السلطة" المكون من "العسكريتاريا"، و"الإسلام السياسي" و "الليبراليين الجدد" في الأبنية الحاكمة، و "الزمرة الليبرالية" بالمعنى السياسي والثقافي. و إذا أضفنا شريحة "اليسار والتيار الوطني –القومي –التقدمي" باعتبارها الشريحة الغائبة نسبيا من المعادلة في الوقت الحالي، لأمكننا إطلاق تعبير "التشكيل الخماسي" للممارسة السياسية. أما إن أضفنا "الشعب" نفسه، خارج النخب المذكورة جميعا، فإنه يمكن الحديث عن "المكعّب السداسي السياسي" كإطار تفسيري للتطور السياسي في بلداننا، والذي يبدو أنه قد دخل في مضمار "الدائرة المفرغة" حتى تتغير الظروف جذريا بإحداث قطع غير قابل للرجوع في مسار الحركة بالاتجاه إلى الأمام، ولو عبر مسار "لولبيّ" طويل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احمد النشيط يصرح عن ا?ول راتب حصل عليه ????


.. تطور لافت.. الجيش الأوكراني يعلن إسقاط قاذفة استراتيجية روسي




.. أهم ردود الفعل الدولية حول -الرد الإسرائيلي- على الهجوم الإي


.. -حسبنا الله في كل من خذلنا-.. نازح فلسطين يقول إن الاحتلال ت




.. بالخريطة التفاعلية.. كل ما تريد معرفته عن قصف أصفهان وما حدث