الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظاهرة المؤقتين الجدد وضمور المرجعية الوطنية (3-4)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 3 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


نخب رثة وزمن بلا تاريخ



إن عدم تحول الزمن إلى تاريخ يرتبط أساسا بغياب فكرة الدولة الشرعية ومؤسساتها. فالدولة الشرعية هي المنتج الوحيد للتاريخ الفعلي. ونلمح هذه الظاهرة حتى في تلك الظروف التي تميز ضعف الشرعية. أما غيابها الكلي فإنه يحول تجارب الأفراد والجماعات والأمم إلى جزء من تجريبية فجة لا علاقة لها بالدولة والمؤسسات. بينما المؤسسات هي الشكل الواقعي للمنظومة. وفي حالة العراق، كان تشكيل الدولة الحديثة منذ عشرينيات القرن العشرين مبنيا على قدر من الشرعية المتفق عليها من جانب النخب السياسية والجماعات التقليدية (العشائر) والمجتمع المديني والقوى الأجنبية (الاستعمار البريطاني) كاستجابة على الوعود السابقة لبدء الحرب الإمبريالية الأولى. فقد كانت هذه الشرعية تستند بدورها إلى مساومة تاريخية، من هنا ضعفها الذي أدى بها في نهاية المطاف إلى الانهيار عام 1958. مع أن ذلك لم يكن قدرها المحتوم. إلا أن هذا القدر الضئيل من الشرعية كان العامل الحاسم في تطورها وتطور مؤسساتها. أما الانقلاب العسكري لعام 1958 فقد كان بوابة الانفتاح على عالم الراديكالية السياسية التي شكلت الحلقة الأولى من حلقات التخريب الدائم لفكرة الدولة والنظام. أما النتيجة فقد كانت تصب في اتجاه استبدال فكرة الدولة بفكرة السلطة، وفكرة النظام بفكرة القمع. مع ما كان يترتب عليه من فقدان مستمر ومتوسع للشرعية، مما أدى بدوره إلى فقدانها الكلي والشامل لاحقا. حينذاك اخذ التاريخ بالاضمحلال والتلاشي. ولا شيء كان قابلا للتراكم فيه غير أساليب وأدوات القمع والإرهاب. عندها أصبحت كل أشكال الوجود والوعي أدوات لتنظيم الإرهاب الشامل. مما أدى إلى أن لا تختلف هراوة الشرطي وابتزاه عن سجون الأجهزة الأمنية وكلمة «المثقف» وموظف الإعلام الرسمي، تماما كما أصبح المرسوم الجمهوري و«مكرمة الرئيس» مجرد قسوة مفرطة في الإذلال وشراء الذمم. وفي ظل هذا النوع من «القيادة» اضمحلت فكرة الإدارة مع ما يترتب عليه من تخريب لفكرة المنظومة في العمل والمؤسسات. آنذاك أصبح العبث هو أسلوب الوجود، بحيث تحولت النكتة إلى جريمة والجريمة إلى «قانون»!
وهي حالة لا يمكنها أن تصنع نخبا بالمعنى العام والخاص للكلمة. إذ لا احتراف متنوع ومتنام غير احتراف الرذيلة. وهو احتراف لا يصنع تراكما ولا يبدع شيئا قابل لإعادة الإنتاج والنمو والتقدم والارتقاء. فالرذيلة تقف عند حدود لترتد بشكل مريع. لأنها لا تعمل في الواقع إلا على إفساد أسس الوجود. أما النتيجة فهي صناعة رخويات غير قابلة للحياة. ولعل نموذج الصدامية بوصفها التجسيد التام للشر المطلق هو دليل على ذلك. فقد جسدت بصورة نموذجية أسلوب اضمحلال وتلاشي النخبة بشكل عام والسياسية بشكل خاص. فقد تحول صدام إلى «مرجع» لكل شيء بما في ذلك تعليم الرجال والنساء في العراق كمية وكيفية غسل الجسد ولبس الأحذية!! وهو أمر يرمز إلى اضمحلال تام لفكرة النخبة واستبدالها بوهم «القائد الضرورة». بحيث جعلت من كل شيء غيره وهما قابل للانقشاع. وهي حالة أدت إلى اضمحلال كل شيء!
لقد كانت هذه النتيجة المقدمة التي أنشأت وفرخت بصورة سريعة هذا الكم الهائل من الحركات السياسية والاجتماعية، إضافة إلى القوى السياسية المغتربة. وهي حالة طبيعية، بل وضرورية. والأكثر من ذلك أنها إحدى أهم وأعظم الإنجازات الكبرى التي تحققت في مرحلة ما بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية.
فالعراق بحاجة ماسة إلى تنشيط كل خلاياه الناعسة والنائمة والخربة، بل وحتى الميتة منها. من هنا لا تعني كثرة الأحزاب والحركات الاجتماعية سوى الصيغة الضرورية المناسبة في ظروف العراق الحالية لتنشيط خلاياه الاجتماعية. إلا أنها شأن كل ظاهرة تاريخية كبرى مميزة لمرحلة الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية لابد وأن يرافقها الكثير من السلبيات. ولعل أهم هذه السلبيات هو انتشار وتوسع واستفحال ظاهرة المؤقتين. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار خصوصية الانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية، التي تتصف بضعف قواها السياسية والاجتماعية والفكرية والمعنوية واستنادها الأساسي للقوى الأجنبية (الأمريكية البريطانية)، من هنا صعوبة توقع اجتياز هذه المرحلة دون إرهاصات كبرى. والقضية هنا ليست فقط في حجم الخراب الكلي والشامل الذي تركته توتاليتارية المرحلة السابقة، بل وفي ضعف القوى السياسية المغتربة. وهو ضعف كان نتاجا لإرهاب الدكتاتورية الصدامية وتقاليد غياب الشرعية والديمقراطية السياسية من جهة، وغياب تقاليد المساومة السياسية العقلانية بسبب اختلافها الأيديولوجي والعقائدي من جهة أخرى.
فالجميع يعاني من ضعف جلي في تأسيس فكرة الدولة الشرعية وفكرة الوطنية العراقية. مما جعل من آلية «المحاصصة» كما ظهرت في أول تشكيل «شرعي» لإدارة «مجلس الحكم» نتيجة حتمية لهذا الضعف. وفي هذا يكمن أحد الأسباب الجوهرية لنفسية المؤامرة والمغامرة في نشاط اغلب الحركات السياسية المعاصرة. وهي نفسية ملازمة لضعف تاريخ وتقاليد الشرعية والديمقراطية السياسية. من هنا إنتاجها لبيئة المتسلقين والمتملقين، التي عادة ما ترافقها نفسية المؤقتين، الذين تشكل بالنسبة لهم فكرة «انتهاز» الفرص الأسلوب الوحيد للتعويض عن انعدام أو ضعف الاحتراف. فالعراق ما قبل انهيار الدكتاتورية كان يفتقد للنخبة والاحتراف. بينما هي القوة الوحيد القادرة على اللمعان في سمائه وأرضه في ظروفه الحالية.
وليس اعتباطا أن تكون فكرة ونموذج «مجلس الحكم المؤقت» هي الصيغة الوحيدة الممكنة بالنسبة للنخب السياسية التي تحولت بين ليلة وضحاها من قوة مغتربة ومشردة إلى عمود الصنعة الجديدة للسلطة. وتعكس هذه الحالة طبيعة وحجم الشذوذ الهائل الذي رافق زمن الدولة، أي افتقادها لتاريخها الذاتي فيما يتعلق ببنية المؤسسات الشرعية وتداول السلطة وتراكم الخبرة والكفاءة الضرورية للسلطة والمعارضة.
فعوضا عن أن يكون مجلس الحكم الانتقالي مرحلة منفية في الوعي السياسي للأحزاب والنخب السياسية، نراه يتحول تدريجيا إلى أسلوب لتأسيس فكرة المؤقت من خلال تفريخ مختلف ظواهر الحزبية الضيقة في بنية الدولة ومؤسساتها وأساليب عملها. فعندما نتأمل تاريخ ظهور «مجلس الحكم الانتقالي» وكيفية فعله على الساحة العراقية والعربية والدولية، فإننا نقف من جديد أمام اغلب الإشكاليات الكبرى وبالأخص إشكالية الوعي السياسي الوطني والاجتماعي للأحزاب في مواجهة المصير المأساوي الذي تعرض له. ولعل أهم عوارض ومظاهر هذه الإشكالية تقوم في سيادة نفسية وذهنية المؤقت المشار إليها أعلاه. من هنا تعمق واتساع مدى الانحسار الفعلي لهذه القوى عندما ننظر إليه بمعايير الرؤية المستقبلية والعقلانية. وهو انحسار جلي في تناقض ادعائها الأيديولوجي تمثيل «الشعب العراقي» وتعارضه شبه التام مع سلوكها العملي في كل شيء! وهو تعارض يستعيد في الكثير من عناصره الخطر الكامن بالنسبة لتدمير الشخصية الوطنية، واقصد بذلك إمكانية انتقال الأطراف إلى المركز، وصعود الهامشية إلى هرم السلطة، واستحواذ الأقلية على مقاليد الأمور. إذ تفسد هذه الظاهرة في نهاية المطاف الجميع وتجعل من الدولة والمجتمع ضحية حماقات يصعب تفسيرها بمعايير المنطق والأخلاق! وهي نتيجة تعادل من حيث رمزيتها فعل الأعاصير والزلازل والجراد. بمعنى إننا نرى صورة الجحيم دون إدراك مغزى العقاب فيه!
وعندما نتأمل تجربة السنوات الثلاث ما بعد الصدامية، فإننا نقف أمام ضعف الإدراك السياسي والتاريخي لماهية الوطنية العراقية وحقيقتها من جانب القوى والأحزاب السياسية المكونة «لمجلس الحكم الانتقالي». من هنا انتشار وتوسع وترسخ الحزبية والعرقية والقومية الضيقة والجهوية والطائفية في كل ما تقوله وتفعله. وهو سلوك يعبر عن انغماسها العميق في بقايا ومكونات البنية التقليدية. مما يعني بدوره، أنها لم تستفد شيئا من تجربة القرن العشرين، وأنها مازالت من حيث الجوهر خارج إدراك حقائق التاريخ العراقي ومعاناته الفعلية. الأمر الذي حدد مفارقة تعامل «مجلس الحكم الانتقالي» مع حالة الانتقال أو المؤقت في وجوده السياسي. اما «الاتفاق» السياسي حول ضرورة إلغائه فقد كان تعبيرا معقولا عن إدراك قيمة المؤقت والعابر فيه.
بعبارة أخرى، إننا نقف أمام ظاهرة تقول، بأن ظهوره وزواله يمتلكان نفس القيمة «التاريخية». وهي قيمة زهيدة للغاية، إلا أن مأثرتها الفعلية كانت تقوم في حالة تحولها إلى فعل سياسي عقلاني يؤسس لقيام الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي. وفي هذا التأسيس فقط كان يمكن «لمجلس الحكم الانتقالي» أن يحتل موقعه التاريخي في حياة الدولة والمجتمع بوصفه الحلقة الضرورية (والأضعف أيضا) في إرساء أسس وقواعد الانتقال السلمي والحقوقي للسلطة. ويرتقي هذا الفعل من حيث رمزيته وواقعيته إلى مصاف المأثرة السياسية الكبرى. وهو انتقال جرى، رغم تعقيد الظاهرة، مما يسجل (لمجلس الحكم الانتقالي) قيمة نسبية بهذا الصدد، وذلك لأنه ألغى وجوده المؤقت في «مجلس حكم انتقالي» دون أن يلغي نفسية وذهنية المؤقت!!
فالجوهري بالنسبة لإلغاء فكرة المؤقت لا تقوم في «حل النفس»، بقدر ما تقوم في تأسيس وإرساء أسس الثبات الديناميكي في بنية الدولة والنظام السياسي والحياة الاجتماعية. وهو فعل لم يكن مميزا للقوى السياسية التي شكلت عناصر «مجلس الحكم الانتقالي». وهي عناصر مختلفة جدا، إلا أن ما يوحدها بهذا الصدد هو نفسية وذهنية المؤقت. فعندما نتأمل«المأثرة التاريخية» لمجلس الحكم الانتقالي، فإنها لا تتعدى في الواقع أكثر من محاولة إرساء أسس المؤقت من خلال ترسيخ وتأسيس فكرة المساومة الحزبية الضيقة والإلغاء التدريجي لفكرة القانون والشرعية والمضمون الاجتماعي المتنور بمعايير المصالح الوطنية العليا.
طبعا إن ذلك لم يكن معزولا عن النقص الفعلي المرتبط «باستحقاقات» ظهوره واستلامه السلطة، إلا انه واقع لا يفسر كل حيثيات الظاهرة. وذلك لان «مجلس الحكم الانتقالي» كان يعاني من ضعف بنيوي يبرز في التعامل مع النفس ومع الإشكاليات الكبرى التي واجهت وما تزال تواجه العراق وبالأخص ما يتعلق منها ببناء الدولة الشرعية والمجتمع المدني. وهو الأمر الذي وضعه من الناحية التاريخية أمام مفترق طرق، أما السير صوب تحقيق فكرة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي وإما السقوط في هاوية الانقراض السياسي. وذلك لان معاداة ومحاربة الدكتاتورية الصدامية بحد ذاته هو ليس ضمانة لترسيخ أسس الديمقراطية، كما أنها لا تحتوي بالضرورة على إدراك لقيمة الدولة والشرعية والمجتمع المدني. وكان يمكن رؤية هذا الواقع بوضوح على مثال تنامي ضعف الحس السياسي الديمقراطي، وتنامي ضعف الشفافية في المناقشة والقرارات، والانزواء المتزايد صوب «الاتفاقات» الحزبية الضيقة والجزئية، وتعاظم ميوعة الخطاب السياسي والاجتماعي والوطني وعدم وضوحه واقتضابه المزيف وانعدام المسئولية أحيانا فيه. وهي ظواهر لها أسباب عديدة منها ما يتعلق بضعف التجربة السياسية العلنية وتقاليدها الديمقراطية والكفاءة الشخصية والنزعة الأبوية والوراثية الناتئة أحيانا عند أغلبية الأحزاب والحركات السياسية المكونة للمجلس، إلا أنها لا تبرر ما أسميته بالنقص البنيوي فيه. (يتبع....).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شهداء وجرحى إثر غارة إسرائيلية استهدفت منزلا في مخيم النصيرا


.. الشرطة الأمريكية تعتقل طلبة معتصمين في جامعة ولاية أريزونا ت




.. جيك سوليفان: هناك جهودا جديدة للمضي قدما في محادثات وقف إطلا


.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي




.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة