الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضرسٌ تالف في فم العفن .

رائد فؤاد العبودي

2020 / 3 / 30
الادب والفن


توقفَ الباص على حدود العراق مع الأردن. كان الوطن كله في ظهري والمجهول كله امامي، وليس معي غير مئة دولار أخفيها بعناية فائقة في جيبٍ سري اخترعته في بنطلوني الجينز الذي أعدّتُ صبغهِ في أحد الدكاكين المتخصصة بإعادة صبغ الملابس التي فرّخها الحصار خلف سينما علاء الدين.
خطوة فقط وانفَصِل عن الوطن، وسنة واحدة وينفصل عقد التسعينيات وتبدأ الألفية.
كان الوطن يحتضر عندما قررت الرحيل، أما المواطنون فكانوا قد ماتوا جميعًا منذُ زمن بعيد، منذُ ان عَبَرتْ سِرفت اول دبابة عراقية الحدود الإيرانية معلنة حرب الخليج بنسخها الثلاث.
كان المواطنون في الوطن الذي قررت تركه قد تحولوا إلى اشباح رمادية معتمه، لا روح فيها ولا نور، اشباح مذهولة بلحىً كثة لم تُحلق من فترة طويلة. أجساد شبحية قهرها ذُل الرئيس فاستسلمت له وصارت تفوح منها رائحة ثقيلة هي نفسها الرائحة التي تفوح في اجواء الوطن: رائحة قميئة كأنها ضرس تالف في فم العفن.
كانت اشباح المواطنين العراقيين الهائمة في الشوارع تصطدم بي مع كل خطوة تمضي بها قدماي في رحلة تيهي المحببة من ساحة الميدان إلى ساحة التحرير.
كنت بالكاد أتحاشى الاصطدام بها بان أُديرُ كتفي بسرعة يمينًا ويسارًا، لكنهم يصطدمون بي رغم حذري ويمضون دون اعتذار أو حتى التفاته..

لا ألوان في شوارع الوطن الذي قررت تركه معتمدا على مئة دولار في جيب سري في بنطلون جينز شبه مهترئ ومعادٌ صبغه. فقط اللون الأسود والرمادي هما اللذان يتسيّدان لوحة الوطن الذي طاح صبغه هو الآخر.

كنتُ أتنفسُ من ثقب صندوق البريد الذي استأجره لي والدي في مكتب بريد الميدان. كان هذا الصندوق رئتي وعيني: الرئة التي أتنفس منها هواء الدنمارك أو السويد او فلندا فلم أكن اعلم بعد أي بلد ستوصلني اليها تلك المئة دولار، والعين التي ارى بها ألوان حدائق وشوارع وبنايات كندا أو امريكا أو استراليا فانا لم أكن متيقنا تماما ان بنطلون جينز شبه ممزق ومصبوع سيوصلني لأي بلد ملون وهواءه نقي.
كنت اراسل كل شي وأي شي. ابعث رسالة لأي عنوان أجنبي اعثر عليه في أي مكان وانتظر الجواب لكي أبقي على قيد الحياة وحتى استنشق ما علق بجواب الرسالة الأجنبية من هواء صحي وبقايا حرية من البلد الذي جاءت منه. مره أمسكت بورقة مجلة اجنبية ممزقة ومتسخة يدحرجها الهواء في شارع الجمهورية قرب المدخل المؤدي إلى الفضل، بعثت برسالة للعنوان المكتوب فيها وجاءني الرد بعد شهر: ناسف على إعادة رسالتك اليك فالعنوان لم يعد موجوداً.

حين وصلت إلى مونتريال، وفي عيادة طبيب الأسنان اللبناني صرخت مساعدة الطبيب عندما فتحت فمي لتقييم حالة أسناني: هذا مرعب قالتها بالفرنسي حتى لا افهم لأنها لم تتوقع إني جئت من بغداد أتكلم الفرنسية والإنكليزية.
اكتشفتتُ في تلك اللحظة، في عيادة الدكتور دبار، وبعد صرخة مساعدته، إني كنت أنا أيضا شبحًا، شبحاً من اشباح الوطن الرمادية القاتمة التي بلا روح وبلا نور.
لم أك قد رأيت نفسي بعد. كنت مشغولًا طوال الوقت، من قادسية صدام إلى ما بعد أم المعارك، مشغولًا بمراوغة صدام والحصار والحدود والقفز عكس المنطق والمعقول والإمكانات المتاحة والوصول إلى بلد ملون بهواء نقي وبلا اشباح هائمة.

مونتريال








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأهلي هياخد 4 ملايين دولار.. الناقد الرياضي محمد أبو علي: م


.. كلمة أخيرة -الناقد الرياضي محمد أبو علي:جمهور الأهلي فضل 9سا




.. فيلم السرب لأحمد السقا يحصد 34.5 مليون جنيه إيرادات


.. … • مونت كارلو الدولية / MCD جوائز مهرجان كان السينمائي 2024




.. … • مونت كارلو الدولية / MCD الفيلم السعودي -نورة- يفوز بتنو