الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مستقبل الفضاء الحضري بعد كورونا

حامد تركي هيكل

2020 / 3 / 30
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


إحتل الفضاء الحضري مكانة مهمة في تاريخ التخطيط الحضري منذ فجر الحضارة الى يومنا هذا. منذ شارع الموكب في مدينة بابل، والأگورا في مدن الأغريق حتى الساحة الحمراء في موسكو، الى شوارع وساحات المدن المعاصرة. وازداد الاهتمام به مؤخرا من خلال التصاميم المعمارية للمحلات السكنية ضمن توجهات الاستدامة عبر التأكيد على الشارع القابل للمشي . فنيومان قسم الفضاءات العامة الى درجات ، عام وشبه عام وشبه خاص وخاص. وجين جاكوب انتقدت العزل والتنطيق الذي اعتمدته الحداثة فأوصت أن تكون الفعاليات متنوعة لضمان الحيوية . وقديما قالوا ان الانسان اجتماعي بطبعه، وقد نشأ علم الاجتماع من مفردة اجتماع الناس . السؤال الذي أطرحه الآن : هل سيغير كورونا نظرتنا للفضاء العام ؟ هل سيصبح اجتماع الناس أمرا غير مرغوب فيه؟ وكيف سنصمم للمجتمعات بعد اليوم؟ وهل سنضطر لترك مفردة الاجتماع والمجتمع ؟ وهل سيطور المصممون الحضريون والمعماريون نظرتهم للفضاء الحضري ؟ هل سيكون هدف المصمم تحقيق اعلى درجة من العزل بعد أن كان همه تحقيق أقصى درجة من التفاعل الإجتماعي؟ هل ستنظر البشرية لقاعات الموسيقى والمسارح والملاعب الرياضية والمطاعم الكبرى والجوامع والكنائس كفضاءات من الماضي ؟ وهل ستختفي قاعات الاجتماعات والسمنارات والقاعات متعددة الأغراض من برامج التصميم المعماري ؟ كيف سيكون شكل الممرات في الأبنية؟ وكيف سيكون تصميم المصاعد الكهربائية؟ هل ستكون المصاعد عبارة عن حجرة لشخص واحد يتم تعريضها اوتوماتيكيا لأشعة فوق بنفسجية بعد كل استعمال لتطهيرها؟ هذا طبعا اذا كان مقدرا لنا أن ننجو من كورونا .
حين طرحت هذه الأسئلة على أصدقاءي ، اختلفت اجاباتهم.
زعم أحد الأصدقاء وهو استاذ كبير في نظرية العمارة ، ان أيّا من ذلك لن يحدث . وأكد ان البشر ومن خلال تقدمهم العلمي غير المسبوق سرعان ما سيتوصلون الى علاج ولقاح لهذا المرض الخطير. وان كل ما يتعين علينا في هذه اللحظة هو الانتظار في بيوتنا فحسب . أما زميلي الاستاذ في العمارة الأسلامية فقد كتب لي قائلا ان هذه ليست الا لحظة عابرة في تاريخ البشرية ستجتازها لامحال. وضرب مثلا، زاعما أننا اذ نشاهد ما تركه لنا البشر من شواخص قائمة متمثلة بابداعاتهم المعمارية المعروفة فاننا لا نلحظ عليها تغيرا قد نشأ من جراء الأوبئة التي طالما عصفت بالبشر عبر تاريخهم الطويل. ولم يقف عند هذا الحد ، بل أنه ذهب بعيدا في الحديث عن السنن الكونية التي تنظّم ايقاع مسيرة البشر ، مما لا أفهمه كثيرا. أما زميلة شابة لي في القسم الذي أدرّس فيه ، فقد اقتربت هي الأخرى من وجهة النظر القائلة بان الأوبئة ما كانت لتدمغ حياة البشر ، ولا تحكم سلوكهم . على الأقل هذا ما حصل في الماضي ، فما الذي يجعل هذه الجائحة تكتسب قصب السبق في تأثيراتها على البشر في حين عجزت الأوبئة السابقة عن فعل ذلك . أما أحد أصدقاءي وهو شاعر كبير فقد أصابته أسئلتي بالهلع رغم أنه وجدها مهمة ومبررة .
ولكنني أضمرت في نفسي أفكارا تعزز موقفي الذي دفعني لطرح تلك الأسئلة ، وتفند بعض ما قال أصدقاءي. ومن بين تلك الأفكار: أن كل ما نحن عليه الآن ما هو الا استجابات البشر لأزمات وكوارث كانت قد عصفت بهم . فبعد حريق لندن صار استعمال الخشب غير مرحبا به ، وصار لزاما أن تتسع الشوارع لمرور العربات التي تنقل الماء لأطفاء الحرائق ان نشبت مرة أخرى. وعندما احترقت شيكاغو مثلا ، ظهرت قوانين بناء جديدة ، ولزم أن تتباعد الأبنية عن بعضها كيما لا تحترق الواحدة باحتراق الأخرى. وقاد ذلك الى ظهور الأبنية متعددة الطوابق ، الذي قاد بدوره الى ظهور المصعد الكهربائي . أليس ذلك ما يشكل صورة مدننا اليوم؟
وعندما واجه العالم أحداث الحادي عشر من أيلول ، تبع ذلك تقييدات على نظم العبور والمرور والطيران وما الى ذلك مما بدا اليوم مألوفا للجميع.
وقديما كانت المدن تحاط بأسوار ، وتلك الأسوار كانت رد فعل لكوارث عانت منها المدن من جراء اجتياحها من قبل الاعداء . أختفت الأسوار عندما أخترع الأنسان البارود. وقديما جدا أضطر العراقيون لحرق اللبن المصنوع من الطين كي يكون أكثر صلابة وأقوى على مقاومة الفيضان بعد أن شهدوا كيف أذابت مياه الفيضانات المتكررة بيوتهم ومعابد آلهتهم. واخترعوا الزقورة لرفع معابد الآلهة عاليا لتكون في منأى عن الغرق . أليست هذه هي الكوارث التي دمغت تاريخ البشر وعمارتهم.
وثمة فكرة أخرى ، اذ قد تكون هذه الجائحة وباء لم تشهده البشرية من قبل ، وبالتالي سيكون لها ما لم يكن لغيرها من الأوبئة . ولا أقصدهنا بطبيعة الحال عدد الذين سيقضون ، ولكنني أشير الى مسألة أخرى . فالوعي الذي تشكل في عقول البشر حول هذه الجائحة من خلال تطور وسائل التواصل ، والقدر الكبير من المعرفة بوجودها الذي تحقق للتو هو بالتأكيد يختلف كليا عن ذلك القدر من الوعي الذي تحقق في ذاكرتهم عن أي وباء آخر. فضخامة الحدث لا تقاس بابعاده الثلاث ، بل بعدد من تذكروه وعرفوه . وبهذا فقد اجتاحت كورونا عقول البشر كما لم تفعل أية جائحة أخرى ، ولهذا سيكون لها الأثر الذي لم يكن لغيرها. أو على الأقل هذا ما أظن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وثائقي -آشلي آند ماديسون-: ماذا حدث بعد قرصنة موقع المواعدة


.. كاليدونيا الجديدة: السلطات الفرنسية تبدأ -عملية كبيرة- للسيط




.. المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري يعلن مقتل جنديين


.. مقطع مؤثر لأب يتحدث مع طفله الذي استشهد بقصف مدفعي على مخيم




.. واصف عريقات: الجندي الإسرائيلي لا يقاتل بل يستخدم المدفعيات