الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكمَّاشة

علي دريوسي

2020 / 3 / 30
الادب والفن


ويحك يا حمزة ما الذي دهاك؟ لما لا تهتدي؟ حتى وأنت بعيد عن جبل دريوس آلاف الأميال ما برح الجوع يطاردك وإن كان هذه المرة بوجه ساخر.

ها هو الجوع يداهمكما عصر هذا اليوم بعد أنْ أنهيتما جولتكما في شارع براغار الشهير في مدينة درسدن الألمانية.

ها هو محسن، الطالب الجامعي الساخر القادم من سهل الغاب، يقول بلهجة لا تخلو من قرويةٍ مبالغ فيها: ليس أمامنا سوى أن نأكل صحن شاورما عند صديقنا التركي مهميت. وها أنت تمازحه: ألم تُزهر الشاورما في بطنك؟

يجيبك محسن: الشاورما تجعلنا أجمل. مازلنا طلبة يا حمزة وليس بمقدورنا أن ندفع أكثر من ثمن الوجبة التركية. وها أنت تقول بطريقة لا تخلو من روح الدعابة: البارحة باكراً، غداً متأخراً والساعة هي الآن. لقد حان الوقت لزيارة صديقنا الكردي المُثَقَّف. ويشجّعك محسن بقوله: أصبت لُبّ الموضُوع، هل لديك رقم تلفونه؟

كنتما قد تعرفتما عليه في إحدى اللقاءات الفقيرة التي تنظمها رابطة المغتربين. عرَّف عن نفسه بصفته شاعر وروائي كردي-ألماني، ولم تحتاجا لوقت طويل كي تدركان أن لغته الألمانية لا تؤهله حتى لكتابة إيميل قصير وأن ثمة حلقة مفقودة قطعاً.

وكان قد أخبركما بأنه يعيش سعيداً مع زوجته وأولاده في بيت كبير بعد أن اشتراه ورمّمه وفرشه بأحس أثاث، ثم اعتذر منكما في ذاك المساء لأن وقته قصير، أعطاكما اسمه وعنوانه ورقم تلفونه كما يفعل رجال الأعمال، ودعاكما كما يفعل الأدباء الكبار لزيارته والتواصل معه لقضاء سهرة نقاش حامية في صالون بيته. وكان يعلم في قرارة نفسه أنكما لن تقدمان على هذه الخطوة.

ها أنتذا تفتح حافظة نقودك، تُخرج منها ورقة مطوية بعناية، تقرأ عنها اسم صديقكما ورقم تلفونه وعنوانه، تطلب الرقم وتذكّره بليلة التعارُف، تخبره عن رغبتكما في زيارته، على الطرف الآخر يرحّب الشاعر بكما مبدياً فرحته بقدومكما.

ها أنتما تنظران إلى إحدى اللوحات المُضيئة المنتشرة في أرجاء المدينة، تقتربان منها، تقرأان اسم الشارع حيث يسكن الكردي، تعرفان أن المكان في ضاحية مَنسيّة وبعيدة والسفر إليه يتطّلب منكما مهارةَ تحمّل المزيد من الجوع والعطش، تصعدان إلى أحد قطارات الشوارع التي تربط مركز مدينة بضواحيها، بطاقتا تسجيلكما الجامعي تكفل لكليهما السفر والتجوُّل مجاناً حتى في الضواحي البعيدة لهذه المدينة، تبتسمان لهذه المكاسب الطلابية.

في طريقكما إليه تتبادلان أحاديث كثيرة مُتنبِّئين بما قد يؤول إليه اللقاء، كنتما في غاية الشوق لرؤيته والتعرُّف إلى عائلته ومنزله وأثاثه ومطبخه الدافئ وغرفة جلوسه ومكتبته وكتبه ورواياته ودواوينه وتذوُّق النبيذ وطعام العشاء الساخن، تحدَّثتما حتى عن ألعاب أطفاله.

في منطقة نائية، مظلمة ومهجورة إلا من بقايا أذناب الهتلرية، أنزلكما قطار الشارع في المحطة الأخيرة، مشيتما بحدسكما في الطريق الموصل لمنزله، بعد دقائق من المشي، بعد إضاعة الهدف والعثور عليه بسؤال وجواب المارّة، وصلتما إلى نهاية شارع غريب الأطوار، على طرفه ثمة بناية من ثلاثة طوابق تحيط بها حديقة مهملة، اقتربتما أكثر، بدت البناية المظلمة كالخرابة غير صالحة للسكن، بدت مثل كتلة بيتون أسقطها الله في العتمة وتناساها، بدت وكأنّ صاحبها قد اشتراها بالمزاد العلني مقابل دولار أو دولارين نظراً لِقِدَمها وأعطابها الكثيرة، ولعلها تخضع لقانون ما يُسمّى حماية ممتلك ثقافيّ.

دخلتما من باب الحديقة المفتوح، لا أثر لجرسٍ أو ضوء، لا صوت إلا صرير الصراصير التي لطأت بين الأعشاب وفي جذوع الشجرات القليلة اليابسة، مشيتما في الزقاق الذي يفضي إلى البيت، أشعلتما الولّاعة، قرأتما اسمه الثلاثي مكتوباً بأحرف ألمانية.

ندهتما اسمه، لم يستجيب لندائكما وكأن الله قد أسكت نأمته، ضحكتما لخيبة أملكما، صحتما باستعطاف: يا شاعرنا، نحن هنا، وصلنا، فأين أنتَ؟ جلستما على حجرين في الحديقة وكنتما جائعين متعبين حتى العظم، أشعلتما سيجارتين ورحتما من باب تزجية الوقت تدندنان بصوت عذب هازئ أغان عشوائية، تشرحان فيها همومكما البطنية وتندبان حظكما العاثر وإضاعتكما للوقت.

لامك صديقك محسن بقوله: لو أنّك سمعت مني لكنا قد أكلنا سندويشة شاورما وعدنا للبيت من أجل الدراسة. وأنت شعرت بتأنيب الضمير، لكنك كنت واثقاً أن الشاعر سيأتي لامحالة، دافعت عنه بقولك: لا يمكن لرجل مثله إلّا أن يكون كريماً، لعله ذهب لشراء طعام الضيافة. أراه يعود مُحمَّلاً بسفافيد اللحم المشوي وبعلب الطعام العربي الجاهز وقد ابتاع لنا من الحانة لتراً عرقاً وزجاجتي نبيذ أحمر مُرّ، أرى ابتسامة فرح ترتسم على وجهه الكردي الجميل، إني أسمع وقع خطاه على الطريق، أسمع نحنحته في الخارج، ألا تسمع!؟ أسمع صوته في المطبخ منادياً زوجته لتحضير طاولة العشاء، أسمع ضحكات أطفاله وهمهماتهم، ألا تسمع!؟ ألا ترى الفرح في عيون زوجته؟ ألا ترى كيف أضاء النور في بنايته!؟

فجأة ومن إحدى نوافذ الطابق الثاني لمحتما شبح رجل يكرز في الغسق، جاءكما صوت خجول يرحّب بكما، ابتسمتما ابتسامة جوع وإنهاك ونرفزة، من فوق أضاء لكما بيل بطارية ليدلَّكما على الدرب الواصل إلى غرفته في الأعلى، في المدخل وجدتما نفسيكما تقفان بين حطام من حجارة وقطع خشب وقضبان حديدية، صعدتما درجاً مهترئاً بغاية الحذر، وصلتما إليه أخيراً، كانت غرفة الجلوس باردة، لا حياة أو ضوء فيها، كانت الشقة فارغة من المرأة والأطفال والالعاب، كان المطبخ حزيناً خاوياً ولا رائحة فيه.

جلستما على كراس خفيفة، لم تحصلا حتى على كأس من الشاي، جلس مقابلكما فقيراً وكانت العنز تأكل عشاءه، حكى لكما عن الحنين، عن جو الضيعة في الوطن وجو المدينة في الغُربة. سألتماه كتلميذين وفيّين: ما هو وجه المُفارقة بينهما يا شاعر؟

أجابكما بعد برهة تفكير هازاً رأسه كالأدباء: في الحقيقة كان (الفراق) صعباً للغاية!

نظرتما إلى وجهي بعضكما، تغامزتما، قلتما بنبرة واحدة: لقد حان وقت العودة، علينا أن نسرع قبل أن تُغلق مطاعم الشاورما، البطون خاوية والجوع كافر يا شاعر.

ما أن خرجتما إلى الشارع حتى أفلتت منكما صرخة عظيمة: يا الله ما هذه الورطة، لقد وقعنا في الفخ هذه المرة كالفئران التي تبحث عن قطعة جبنة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية - الشاعرة سنية مدوري- مع السيد التوي والشاذلي ف


.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال




.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف


.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج