الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


همسات في زمن كورونا

نورة الصديق

2020 / 3 / 31
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


رهق غير متوقع يهطل على رأسي بغزارة، بين الجدران الأربعة لا أفارقها إلا لزاما، في حجر صحي مفروض على الجميع في البلاد وفي العالم جراء الجائحة المستبدة الهالكة، إلا من نافذتي المطلة على الشارع الكبير الممتد، أستقصي حركاته كل مرة، إلا أنه يسوده صمت رهيب تقشعر له الأبدان ، ويحبس النفس في الصدور، لا حركة إنسان أو طير تدغدغ أحشائها ،كأنه ليل مضيء يسدل أستاره على المدينة، ويلفها بكثبان رهبة صاعقة، ودمار بشري يسكن الأركان...وخوف مستكين في كل الصدور...

يطوف الموت في كل الأجواء، يتنفس بنهم كل الحياة، كلما أرخى وشاحه على الأجسام التي تلتهم المسافات بانتشاء، وفي يدها ترخيص الخروج من السلطة وكأنه يحمل جواز سفر الى دولة أحلامه، أو لكي لا يفسح الطريق لكورونا تخترق جسمه، ولا يعلم أنها لا تحمل جوازا للاستئذان من الآخر كي تلج فمه أو تحط رحالها على أطرافه، في انتظار العاصفة تجتاحه و تحمله الملائكة البيضاء رفاتا باحتراز شديد لا تتبعه غير مسحة دمعات حارقة، ونظرات أخيرة شاردة ...
لا أحد يطوف ولا يجول في الشارع الأمامي غير مهندسي النظافة الذين تستغفر لهم خطاهم عن خطاياهم التي ارتكبوها في همس مبتول، وفي ثنايا نفوسهم يهمسون بدعاء يتسلق أرواحهم، وبتمتمات حصينة منيعة يتلونها على امتداد الشارع، يعانقون الأكياس في صمت ويمضون..
في نعمة أو نقمة حبانا الله بها ،لفترة لم تكتمل بعد مدتها، أحسُّ بضيق في صدري، لا أتحمل ضجيج الأطفال، والدخول و الخروج في الغرف الضيقة، لا ترفيه فردي ولا عائلي في الخارج، لا رقص يدغدغ فضاءات القاعات، ولا غناء يزلزل جدران الفنادق، ولا صخب يهز كيان الدروب، ولا اختلاط يقض أنفاس الشوارع... غير أشجار جف ريقها، وصقور تتحدى اتساع الأجواء لتعبرها نحو الآفاق، وأشباح تتناسل أمام الأنظار...

أتصفح بعض الجرائد المركونة، أقتل بها الوقت الذي كاد يقتلني فراغه، بعد ترك العمل حتى تمر أزمة الجائحة، وأتمم بها إبحاري الغارق في المواقع الإلكترونية طيلة اليوم، أتعبني تقصي أخبار كورونا المهولة في العالم التي تشخص لها الأبصار كل ثانية، وتشرئب لها الأعناق كل حين، وتذرف لها الدموع منهمرة علانية و خلسة... حتى صممت ألا أتابع المستجدات ولا أراها مجددا لأنها تقتلني في صمت، وتسلل إلى داخلي عنوة كما الموسيقى، ولا أشعر بطعم الأيام التي أنفقها ثمينة على الأرض .

أنظر إلى مكتبتي الحائطية الصغيرة والتي طالها النسيان ويزحف إليها اصفرار الاندثار، بها كتب تشيخ يوما بعد يوم كما أشيخ في صمت، تسللت إليها ذرات الغبار التي تصول و تجول في الشوارع ،وتجد على أغلفتها وطنا لها مثبتة جذورها بعد سنوات اقتحام لجلودها المتينة، أكسر بها روتين العزلة التي تتغدى من أوردة قلبي، وأعزم على إعادة قراءتها من جديد وتبادلها مع الأبناء ،والتنافس بينهم حول من يلتهم أكبر عدد من الكتب أو كلها، لتمتص براثن الحزن والهلع التي يستولي على كل بيت في بقاع العالم...

أتردد على مكانين محتلين من غير عادتي وعن غير إرادتي ، في البهو مقابل التلفاز، وكرسيي على مائدة الأكل، كلما ناداني الأبناء للالتحاق بهم، والتهام ما أعدته الأيادي الكريمة والطاهرة، من وصفات تقليدية ووجبات عصرية تبدعها بعد المكوث في البيت في إطار الحجر الصحي، فلا أرتاد على المطاعم والمقاهي والحمام وصالون الحلاقة...أجدني وفرت المال الذي أسرفه بلا تدبير، وينفذ بسرعة و تحمله الريح بلا أثر ،وتلتهمه مثل الطوفان العظيم...

أجلس في مكاني أحيانا، وأعدل من وضعيتي كلما أحسست بتبنيج عضلاتي وتنويم جنبي على الفراش الذي امتصته مؤخرتي منذ أيام الحجر، وبدخول النسيم البارد المبتل يغطي قسمات وجهي بالكآبة والكدر القانط، فيستلقي على ملامحي فتتقلص استحياء و ارتعاشا في الأيام المسلوبة مني...و أنام على ظهري لأعانق كتابا، أو أحوم ببصري في سطح البهو، وأخترقه في تفحص دقيق، فيتبعثر بين خطوط نقوشه مثيرة فوضى تحت ذرات الغبار، تتناسل بينها شقوق متصدعة أكتشفها لأول مرة في فتور تام، أو أدغدغ مسبحة لؤلؤية بأناملي بين غفوة و سنة حتى يخطفني النوم وأغط في استسلام قاهر...
يستقبل الشفق الشمس في زمن المغيب بعد يوم طويل لا ينتهي، إلا برفع أكف الضراعة كي يحتضر، فيداعب السحب اليتيمة ليوم كامل كي يقبل الغسق ويرخي طوله ورداءه الحالك، وتغرق المدينة في الصمت الرهيب والخوف الرقيب، تنتظر الموت الوعيد، تحت قمر يحصي الشهداء تحت تأثير مضادات الألم و الأرق ...ليل و ليالي تخبئ المصير المجهول في كف القدر، الذي يمحو الابتسامة بالفاجعة التي تنسج أحلامي في الأوهام، وإرهاصات خسوف غير منذر يتربع على عرش فصل الربيع، والخوف الذي يسري في كيان العالم، بعد اجتياح الفيروس كل بقاع العالم، يحصد حصاده بلا رحمة ...
بين غفوة و صحو تتداول الأيام العصيبة كنسخة واحدة يعاد نسخها كل مرة، إلا من تميزت ببعض البصمات الطفيفة في المنزل رغبة مني في سبر ما يغمر أركان البيت، يحيى في جنون الصبا و أبعثر أشلاء الآلات المعطوبة المركونة جانبا منذ سنوات، أصلح منها ما تيسر، وأرمي ما انتهت صلاحيته...
هي ذكريات وسنى تأخذ مكانها في حيز تاريخ يتجذر، وستغدو كخيوط مهترئة تتلاشى مع الزمن حتى تنقطع، ويصير التعبير عنها أثقل و أصعب في غمرة الاسى الا من صدى شذرات مدفونة، ولا يلزم إلا التعايش معها في هذه الحياة مرونة بالأشياء المتاحة لا المرغوبة...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة بعد الحرب.. قوات عربية أم دولية؟ | المسائية


.. سلطات كاليدونيا الجديدة تقرّ بتحسّن الوضع الأمني.. ولكن؟




.. الجيش الإسرائيلي ماض في حربه.. وموت يومي يدفعه الفلسطينيون ف


.. ما هو الاكسوزوم، وكيف يستعمل في علاج الأمراض ومحاربة الشيخوخ




.. جنوب أفريقيا ترافع أمام محكمة العدل الدولية لوقف الهجوم الإس