الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث عن عائشة: الفصل السابع عشر/ 1

دلور ميقري

2020 / 4 / 3
الادب والفن


منذ بلوغه سن الرابعة عشرة، دُفع مستو إلى العمل في مشغل النول، المملوك من لدُن شقيقه الكبير. شهادة البروفيه، كانت قد استعصت عليه عندئذٍ، فوجدها الأبُ حجّةً كي يقرر له مستقبله: " في هذا الزمن، العلم لا يُطعم خبزاً وإنما الصنعة "، قالها لابنه بنبرة قاطعة مألوفة. في واقع الحال، أنّ الحاج حسن لم يكن يمقت الشهادة الدراسية ( وهوَ عالم الدين والشاعر )، بل انتابه الوسواس وقتئذٍ بأن أيامه في الحياة ربما أضحت معدودة ولم يكن يود تركَ أحدٍ من أفراد أسرته دونَ ضمان لناحية المورد والرزق. وسواسه تحقق، وغادر الحياة في ذلك العام نفسه. لكن مستو ترك العمل قبل ذلك لدى شقيقه، منتهزاً أيضاً فرصة مرض أبيه الأخير: الصنعة، لم تكن من تقاليد آل حج حسين، فلم تستمر حتى في أخلاف سلو.
بساتين الحارة، كانت المكان الأثير لفتانا، بالأخص في فصليّ الربيع والصيف. كان وجهاً أليفاً للمزارعين الصوالحة، وذلك على خلفية عمل شقيقيه لدى الملاكين فضلاً عن مركز والده السابق، كزعيم للحي. في المقابل، كان مستو يتحرك أمامهم ببعض الغطرسة، وكما لو كان يود إفهامهم أن حراسة البساتين ليست مهنته. لكنه كان فردوسَ حياته اليومية، هذا المحيط الأخضر، المطوَّق بساقية ثرة المياه، وكان يُدعى " الدايرة "؛ بالنظر إلى تشكيله ما يشبه جزيرة، يدور حولها الجدول النحيل، المستمد مياهه من نهر يزيد. القسم الكبير من البساتين، كان مملوكاً لمخدومين شقيقه حسينو، المنتمين لآل شمدين. وهنا كانت مزرعتهم الخاصة، المغروس فيها شتى ألوان الأشجار المثمرة، يسكن بين أغصانها أنواع الطيور، تضج بتغريدها مع طنين الزيزان والنحل والزنابير. إلى أصوات الحيوانات كالبقر والماعز، السارحة سعيدةً في حقول البرسيم، المفصولة عن الحقول المزروعة بالخضار بسياج من الأغصان الجافة المجدولة.
وإنها هذه المزرعة، مَن ستشهد حادثة مأسوية، ذهبت بأحلام الفتى أبداً.

***
المطالعة في كتب الأدب والتاريخ، كانت الشغف الأساس لمستو. إنه بنفسه، متأثراً بقراءاته في مجلّد الوالد المخطوط، كان يحاول قرضَ الشعر. وكان من النادر أن يتجول في البساتين، إلا وكتاب بين يديه أو مجلة مثل " الهلال " المصرية، المشترك والده فيها. ليلاً، أثناء مناوبة شقيقه حسينو، كان يقرأ في كوخ الناطور على ضوء قنديل الكاز. حينَ يكون برفقة قريبه ديبو، قبلَ أن يُقبل هذا بسلك الدرك، كثيراً ما تجادلا حول أهمية الكتب في حياة المرء. ابنُ الأخ، شبه الأمّي، كان يؤكد وهوَ يفتل شاربيه أن القراءة لا تلعب أيّ دور في الحياة. ذات مرة، وكان الوقتُ نهاراً، أثيرت المسألة مجدداً. قال ديبو، مشيراً برأسه إلى ناحية أحد الفلاحين، المنهمك بعمله في الأرض: " لقد عاشَ مثل أسلافه، لا يعرف القراءة والكتابة، لكن ذلك لم يؤثر على معيشته "
" هل تعتقد أنه سعيدٌ بحياته، يعمل في أرضٍ لا يملكها؟ "، تساءل مستو قبل أن يضيف: " لا أعتقد ذلك. لو لم يكن جاهلاً، لتمرد مع غيره من الفلاحين من أجل حياة أفضل ". دهشَ ابنُ أخيه من هذا الرأي الغريب، المستمد ولا شك من قراءة القصص المترجمة ومقالات المجلات. فعلّق بالقول: " تريده أن ينتزع الأرضَ من صاحبها على طريقة لصوص الحارة، الذين ينهبون غلالها لو لم يجدوا النواطير يقظين لهم؟ "
" اللص لا يقارن بالفلاح، الملتصق بالأرض والمحيي روحها بجهده طوال العام "
" لا أجد فرقاً بينه وبين عاملٍ يشتغلُ في مصنعٍ يملكه غيره، لكنه يحصل على أجرته شهرياً "
" نعم، لا فرق بينهما لناحية الخضوع لشروط عمل قاسية مقابل أجرٍ لا يكفي أود أسرته "
" تصوّرْ لو أن كل عامل أراد الاستيلاء على معمل يشتغل فيه، أيّ فوضى ستحصل؟ "
" بل يجمع العمال جهودهم لإدارة المعمل، ثم يقتسمون الأرباح بينهم بشكل عادل. أما الفلاحون، فيمكن لكل منهم استغلالَ قطعةٍ من أرض الملّاك. هكذا تتحقق المساواة للجميع "
" عجباً! إنك تريد فرضَ شريعةٍ غير شريعة الله، التي قسمت الأرزاق بين البشر "، قالها ديبو ملوّحاً بيده من جديد باتجاه الحقول. ثم أردفَ ضاحكاً: " أهيَ الكتبُ من قالت لك ذلك، أم تأثّركَ بسيرة قريبنا قاطع الطريق؛ حمو جمّو؟ ". شاركه مستو بالضحك، وكان الحديث قد أشعره بالحرية وانطلاق الفكر. لكنه آثرَ التوقف عند هذا الحد، لشعوره بضجر ابن أخيه، الذي كان يؤثر الأحاديث الشخصية، المتعلقة بالمستقبل المنتظر كلاهما.
كان يرتاح لصحبة ديبو، لأن هذا يتقبل تفوقه عليه رغم أنه يكبره. بساطة ابن أخيه، وكان يعتبرها كثيرون خفّة عقل، دفعته إلى أن يفتح له قلبه بأمور القلب، الأكثر حساسية وخصوصية: مستو، كان يعشق " آية " أخت الجار بَدو من أبيه، وكانت تماثله تقريباً في العُمر.

* مستهل الفصل السابع عشر/ الكتاب الرابع، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج عادل عوض يكشف كواليس زفاف ابنته جميلة عوض: اتفاجئت بع


.. غوغل تضيف اللغة الأمازيغية لخدمة الترجمة




.. تفاصيل ومواعيد حفلات مهرجان العلمين .. منير وكايروكي وعمر خي


.. «محمد أنور» من عرض فيلم «جوازة توكسيك»: سعيد بالتجربة جدًا




.. فـرنـسـا: لـمـاذا تـغـيـب ثـقـافـة الائتلاف؟ • فرانس 24 / FR