الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نفسية وذهنية المؤامرة والمغامرة في العراق (1-3)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 4 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


يوصلنا تحليل ظاهرة المؤقتتين الجدد في العراق إلى أن إحدى نتائجها تقوم في تحول نفسية المؤامرة وذهنية المغامرة إلى مكون ملازم للنخبة السياسية. وهي ملازمة لها تاريخها الخاص في السياسة والدولة والأحزاب والنخب، لا تخرج في النهاية عن كونها خروجا على منطق الحق الاجتماعي والأخلاق السياسية. ونتيجتها واحدة رغم اختلاف الصور. لكن حالما نتأمل تجارب الأمم والنخب والأحزاب السياسية بهذا الصدد، فإنها تكشف لنا عن تشابه في الصور والنتيجة مثير للدهشة! ويخترق هذا التشابه الزمن والثقافة ومستوى التطور. بمعنى انه لا يقر بخصوصية القومية والدين وحتى مستوى التطور الاجتماعي والثقافي. مما يكشف بدوره عما يمكن دعوته بمحدودية هذه النفسية والذهنية بالنسبة للتقدم الاجتماعي. وسبب ذلك يقوم في أنها نفسية وذهنية محكومة بالمؤقت والعابر. ومن ثم لا تراكم نوعي فيها بالنسبة لتطور وتقدم فكرة الحقوق والدولة. أما انتشار وتغلغل نفسية المؤامرة والمغامرة في كل مسام الوجود البشري على امتداد تاريخه، فعادة ما يصنع وهم تجوهرهما في النفس الإنسانية. وهو انطباع يقترب من الحقيقة عندما ننظر إليه بمعايير ما دعته الفلاسفة القدماء بالنفس الغضبية، أي كتلة الغرائز الأساسية. حينذاك تصبح المؤامرة والمغامرة جزء من «الصراع من اجل البقاء» أو مظهرا من مظاهر الكفاح من اجل الحفاظ على النوع وما شابه ذلك. وهي نفسية يمكنها التجلبب بأغطية وألبسة غاية في التنوع، لكنها لا تستطيع الخروج من حيز التأثير المباشر وغير المباشر لفعل الغريزة وسيادة آليتها في الرواية والدراية والقول والعمل.
وقد شغلت هذه القضية الفكر الإنساني منذ وقت مبكر. بل يمكن اعتبارها من بين أولى القضايا التي حاولت الأسطورة والدين والفكر المنطقي (الفلسفي) تفسيرها أو وضعها في أساس رؤيتها للأسباب القائمة وراء الاقتتال والصراعات والحروب. فنراها في قصة إبليس وإغوائه. فهي «المؤامرة» التي أنزلت الإنسان من برج «الحضرة الإلهية» إلى حيز الوجود التاريخي، وجعلت منه كيانا قابلا للقبح والحسن. أنها استطاعت نقله من «جنة النعيم» والهبة المجانية إلى معترك الحياة وجحيم معاناتها. وميز هذا الانتقال وما زال يميز تاريخ الإنسان ووجوده في كل فعل من أفعاله. ولعل أسطورة هابيل وقابيل، من بين أكثرها «نموذجية» في استمرار تاريخ الإغواء لحل القلق المهيمن على العقل والضمير. ففي هذه الأسطورة نرى محاولة أولية لفهم كيفية انتشار وتكاثر الناس من عائلة واحدة. وفيها تنعكس الصيغة الطفولية لفهم التنوع الممكن في «العائلة» البشرية. كما نعثر فيها على إدانة «أخلاقية» تتضمن إمكانية فهم «السبب الأول» لنفسية المؤامرة والمغامرة وقدرتها على تجاوز كل «المحرمات» في حال وقوفها ضد الغريزة «الحيوانية» في الإنسان.
ففي هذه الأساطير وغيرها نعثر على أولى الصيغ البدائية الساعية لتصوير التاريخ الواقعي للبشرية، باعتباره تاريخ المؤامرة والخديعة والاستعداد للاغتيال والقتل من اجل بلوغ المرام. وهي حقيقة في حال الإبقاء عليها ضمن تاريخ الغريزة والرذيلة، الذي لا يمكن فصله أيضا عن مجمل التاريخ الإنساني. فالتاريخ هو وحدة الكلّ. وكل جزء منه يحمل بصمات وصدى البقية الباقية من أجزائه. ومن تأمله ظهرت مختلف التصورات والأحكام والظنون عن قضايا الحياة والموت والمعاد، أي كل ما يكوّن زمن وجوده الأرضي وديمومته الأبدية. ففي مؤامرة النزول إلى الأرض والصراع من اجل تملك ما تشتهيه النفس نرى تراكم المغامرة التاريخية للإنسان، التي جعلت من حياته ومماته لغزا أمام العقل والضمير والحق. بمعنى صنعها كل الإشكاليات العصية على الحل أمام الفكر المنطقي والعقلي.
وهي إشكاليات نعثر عليها في كل الأساطير الدينية بوصفها محاولات لتفسير ظاهرة الوجود الإنساني نفسه. كما أنها تعبر عن نزوع الإنسان الدائم لتذليل نقص وجوده التاريخي من اجل بلوغ السعادة والكمال. بمعنى العمل من اجل الارتقاء بتاريخه إلى مصاف الفكرة المجردة للحق والحقيقة. ولم يكن ذلك في الواقع سوى الأسلوب الضروري لتذليل نفسية وبقايا الرؤية الأسطورية القابعة في أعماقه من اجل إدراك حقيقته الأولى. وشكل هذا الإدراك على الدوام هاجس الرؤية الأسطورية والتفكير العقلي والمنطقي في محاولاته العديدة والمتنوعة لتفسير وتأويل وتبرير ما يواجهه من مشاكل وقضايا وإشكاليات وعقبات وعثرات. فهو الأسلوب الذي يصنع نفسية المؤامرة والمغامرة، كما انه أسلوب صنع ذهنية تذليلها الفعلي. من هنا صراع فكرة الهوى والوحي، والظن واليقين. ومن ثم فهو الصراع الذي يريد كل طرف فيه حسم إشكالية الوجود التاريخي للإنسان. الهوى والظن من خلال البقاء في حيز الغريزة والفعل بموجبها، والوحي واليقين من خلال العقل المتسامي والوجدان الصادق. كما يعبر هذا الصراع عن تباين واختلاف عميقين بالنسبة لإدراك الزمن والتاريخ، والحياة والعيش، والحق والبطش. وقد كان هذا الصراع وما يزال يشكل المحور الجوهري للوجود الإنساني في مختلف مستوياته وميادينه.
الأمر الذي يجعل من نفسية المؤامرة والمغامرة جزء ملازما للتاريخ الإنساني بشكل عام والسياسي بشكل خاص، بفعل مرافقتها الدائمة للمصالح. إننا نعثر على المؤامرة والمغامرة في كل مكان وزمان وفعل وهاجس ورؤية. إنهما يتلازمان في الحب والكراهية، والحرب والسلم. وبدونهما يصعب تحسس الألم الذي كان يعتمل في قلب هوميروس وذاكرته عندما كان يصور الحرب الهوجاء حول طروادة. كما كان يصعب عليه عزلها عن نفسية المؤامرة والمغامرة التي كانت تعتمل في قلوب شخصياتها وأبطالها من هيلين واغاممنون وأخيل وغيرهم. بل أن صراع الآلهة ومؤامراتها تبدو عديمة الجدوى أمام المؤامرة الكبرى لحصان طروادة وإغوائه الذي جعلها نهبا لمغامرة التحدي العنيد في استرجاع هيلين أو الانتقام ممن أحبته أو سرقها. حينذاك تصبح الأفعال مجرد استكمال للهوى والظنون، خصوصا إذا كان الحب والخديعة هي الأطراف السائرة في فلك المؤامرة والمغامرة التي تعتمل في أقدار الآلهة ونفسية البشر. أما المعارك الدامية حول هيلين التي أهلكت من أهلكت، فإنها لم تعد شيئا أمام تاريخ المؤامرة والمغامرة النموذجية التي جسّدها «حصان طروادة». فهي المؤامرة والمغامرة التي دمرت مدينة وخلدت معركة! وأبقت لنا ذاكرة مليئة بالإعجاب والاندهاش. وقد يكون ذلك هو الشيء الأكثر أهمية بالنسبة للرؤية التاريخية والإنسانية. إذ استطاعت أن تنتج إبداعا يصعب تصوره دون هذه الحبكة الهائلة من مؤامرة العقل ومغامرة الضمير في اجتياز وتذليل كل ما يقف حاجزا أمام بلوغ الرغبة التي تعتمل في نفوس الناس وقلوبهم.
ونعثر على هذه الحبكة في كل النماذج الكبرى للإبداع الأدبي. إذ يصعب تصور هذا التسلسل المدهش في إبقاء المرء متلذذا بعذاب الانتظار ليلة أخرى من اجل الاستماع إلى حكاية جديدة كما نراها في سلسلة ألف ليلة وليلة. فهي الحبكة التي استطاعت تذليل سلطان السطوة والقسوة بسلطان الكلمة المنسوجة بخيال العقل والبرهان. كما ترتقي هذه الحبكة إلى مصاف المغامرة المغرية للروح والجسد، والمؤامرة الحية للعقل من اجل تذليل نزوة العنف والإرهاب. بعبارة أخرى، إننا نقف أمام ألف ليلة وليلة من المؤامرة والمغامرة الساعية لكي يغفل سلطان الجسد من تعطشه لاقتطاف رأس امرأة عوضا عن امتلاك قلبها. وقد يكون من الصعب بدون هذه المؤامرة والمغامرة توقع قيمة وأهمية المعاناة التي صورها الخيام في رباعياته وشكسبير في عطيل وهاملت وغيرها من أعماله. فهي الحالة التي يتوجس الشعراء العظام خطرها المحموم ومصيرها المشئوم. وقد يكون هو أيضا السبب الذي عادة ما يجعل منهم ضحية المؤامرة والمغامرة المبتذلة للسياسيين وحسد «الشعراء» الخائبين. من هنا عادة ما يكون مصير الشعراء العظام القتل والتشريد. وفيه تنعكس أولا وقبل كل شيء دناءة المؤامرة والمغامرة المحبوكة بمخيلة العقل لا الوجدان. مما يشير بدوره إلى أن الشاعر العظيم لا يعمرّ طويلا، لكنه يتسرمد في ذاكرة الأجيال، لأنه عصارة وجدانها المتحير والمندهش في حدسه لما يمكن أن تؤديا إليه من خراب شامل.
وعموما يمكننا القول بأن الأعمال العظيمة هي التي تكشف عن الأبعاد الدنيئة في نفسية المؤامرة والمغامرة. وهي مفارقة نعثر عليها أيضا في مفارقة الإبداع الفكري لتاريخ تمظهرهما السياسي الواقعي والمفترض في «أمير» ميكيافيلي. ففي معرض حديثه عن «أولئك الذين يستولون على الإمارة عن طريق النذالة» يتكلم ميكيافيلي عن سبل الوصول إلى السلطة بطريقة لا علاقة لها «بالحظ والكفاءة». وتنقسم هذه السبل عموما إلى نوعين، الأول وهو سبيل «النذالة والقبح»، أي المؤامرة، والثاني وهو سبيل «ارتقاء أحد أبناء العامة إلى سدة الحكم بتأييد مواطنيه»، أي المغامرة. وهما سبيلان أورد نماذج ملموسة من تاريخ إيطاليا وأوربا للتدليل عليهما. الأول وهو ما قام به اوغاتوقليس الصقلي، الذي كان من أحط وأدنى طبقات المجتمع، لكنه لم يخل من ذكاء وحيوية. وقد استطاع بلوغ سدة الحكم بطرق متنوعة من الخديعة والعنف إلى أن توجها بالمذبحة التي أقامها لشيوخ المدينة وأثرياءها. واستطاع في مجرى حياته وخوضه للمعارك الدامية مع قرطاجة وهزائمه المتكررة أمامها من إحكام سيطرته على صقلية والإبقاء عليها تحت حكمه. وتشير هذه النتيجة إلى أن كل ما في سلوكه لم يكن نتاجا للحظ بقدر ما كان جزء من مساعيه وتخطيطه. فقد استعمل كل الوسائل والأساليب للإبقاء على حكمه. ومهما كانت أقوال البشر عن هذا النوع من الناس، فأنه لا يمكن اعتبارهم رجالا مشهورين (عظماء).
أما الشخصية الأخرى، فهي شخصية اوليفيرتو دافيرمو، الذي نشأ يتيم الأب يرعاه خاله جوفياني فوجيلياتي. واستطاع هذا الشباب من خلال سلك الجندية وحيويته وذكاءه أن يتدرج في القيادة إلى أن استطاع السيطرة على مدينة فيرمو بمساعدة «الذين كانوا يفضلون العبودية على الحرية». واستطاع لاحقا أن يدبر مؤامرة القضاء على كل أعدائه وأقربائه وأصدقائه بعد وليمة عشاء. بعدها امتطى حصان القوة من اجل جعل نفسه أميرا على البلد. واستعمل أسلوب القضاء على كل معارضة وأعداء محتملين. وأحاط نفسه بجمهرة من العسكريين والمدنيين بحيث فرض مهابته على الجميع بما في ذلك جيرانه. إلا أن مصيره كان خائبا. إذ لقي حتفه مع أساتذته في القسوة والغدر. وقد توصل ميكيافلي في مجرى تحليله لهذه الشخصيات إلى القول، بأنه في «وسع أولئك الذين يتبعون الطريقة الأولى أن يصلحوا أوضاعهم مع الله ومع الإنسان، كما كان الحال مع اغاتوقليس الصقلي، لكنه ليس في وسع الآخرين أبدا الحفاظ على أنفسهم وأوضاعهم».
وعندما نضع هذه الصور الشخصية للنماذج التي قدمها ميكيافلي، فليس من الصعب رؤية أشباهها في شخصية محمد على باشا (رغم الخلافات الممكنة) مع الأول (اغاتوقليس الصقلي) وصدام حسين مع الثاني (اوليفيرتو دافيرمو). بل أنها تبدو الصيغة الأكثر نموذجية لنفسية المؤامرة والمغامرة القذرة لبلوغ الإمارة. فهو أيضا ينحدر من عائلة بسيطة، نشأ يتيما وقتل خاله الذي رباه، ودبر مذبحة «الحزب» لرفاقه، واستفرد «بالعسكريين والمدنيين الجدد» في ترتيب «مهابته» على العراق والجيران. إلا أن مصيره كان أكثر جلاء مما في الماضي. بمعنى انه لم يكن «في وسعه أبدا الحفاظ على نفسه وأوضاعه».(يتبع...)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السيسي ينصح بتعلم البرمجة لكسب 100 ألف دولار شهريا!


.. تونس.. رسائل اتحاد الشغل إلى السلطة في عيد العمّال




.. ردّ تونس الرسمي على عقوبات الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات


.. لماذا استعانت ليبيا بأوروبا لتأمين حدودها مع تونس؟




.. لماذا عاقبت الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات تونس؟