الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السجدة

بولات جان

2020 / 4 / 5
الادب والفن


1
قبل ثلاث أيام:
كنا قد تنحينا جانباً في أقصى أطراف السهل الفسيح، ذاك السهل الذي تنفجر من بطنه النهر وتحيط به شجر الحور والصفصاف وتفوح منه عبق اليانسون. تلالٌ مشجرة تحيط بالسهل كإحاطة السوار على المعصم، تلالٌ باشجار البلوط ترتفع نحو القمة، وكانت الثلوج البيضاء تغطيها وكإنها قلنسوة صوفي متعبد يستعد لرقصة السماح...
شمس الربيع حنونة اليوم، و عبق التراب المحفور تواً تزكي الأنفاس ممتزجة بطعم الفطر الربيعي وهي تشوى على نار خشب البلوط الذي يطقطق من اللهيب الأحمر. وكان أزيز الدرون الصغيرة تطن مبتعدة تارة حتى يختفي الصوت ويعلو حتى تزعج سكون ظهيرة الربيع الهادئة. كانت أصابعهم تتمرن على مقود التحكم فرحين بعملهم الجديد وما تعلموه طيلة الشهور المنصرمة. وكان جهاز راديو صغير مستلقي على الحقيبة الخاكية المتسخة إلى جانب الصخرة الكبيرة يصدح بنشرات الاخبار الجديدة... أخبار جديدة طوال الساعة في هذا الربيع.
مرت مجموعة بمحاذاتنا، أبتسموا لنا دون كلام ولم يقربوا علينا وتابعوا مسيرتهم بخفة بين الأشجار والصخور نحو التلال... تبعتها مجموعة أخرى لوحت بالسلام لنا دون كلام واتجهن كذلك نحو التلال... ومجموعة صغيرة أخرى تفاجئت وهي تجد نفسها بيننا أبتسم أحدهم وسألنا الآخر عن حالنا وسألا عن الدرب الذي يجب أن يسلكاه للحاق بأترابهم... دعوناهم إلى الشاي المخمر على الجمر ولكنهم شكرونا وتابعوا الدرب الذي أخبرناهم به. وبعدها كان هنالك صوت نقاشات تتعالى من بين الأشجار يقترب منا. أستوضحنا من بعضنا "مال الذي يجري بحق السماء؟". كان صوت نقاشهم يرتفع يشوبه صوت الانفاس المنهكة من الدرب الجبلي المتعرج. وصل الصوت ومعه أصحاب الصوت إلى تلك البقعة التي كنا قد تنحينا فيها جانباً منذ عدة أيام. ألقوا التحية علينا وطلبوا ماءاً يشربونه... بدا بأن أحدهم كان قد تسبب في ضياعهم للدرب وكان الآخرون يقرعونهم بلا توقف وهو يشعر بالخجل...
نحنُ كنا قد بتنا بمثابة شرطة المرور، ندلهم على الطريق الذي يجب أن يسلكوه ويلحقوا بأترابهم الذي صعدوا إلى التلال. جاءت المجموعات الصغيرة تباعاً وكلها كانت تتكلم بصوتٍ عال ويصل أصواتهم قبلهم إلينا ونحنُ في كل مرة نقف، نرد السلام وندلهم على الطريق وقبل مغادرتهم يستفسرون مستغربين: "ما الذي تفعلونه هنا؟". لم نكن نحمل أنفسنا مشقة الجواب وإنما نكتفي بالابتسامة ودعوتهم إلى شرب الشاي.
كنا نعرفهم جميعاً، كلهم من الصف الأول، ويبدو بأن أمراً مهماً يحدث، فإما هم متجهين نحو اجتماع ما، أو قادمين منه.
بعد الظهيرة وصلت مجموعة أكبر، المجموعة كانت صامته ويلفها الرهبة والحذر، يتوسطهم أكبرهم... تفاجئ بنا وتوقف لإلقاء التحية ولم يرفض تلبية الدعوة لشرب الشاي... توجه بالسؤال مباشرة: "ماذا تفعل هنا؟" كان السؤال بصيغة (المفرد)، لم يكن سؤال استفسار، بل سؤال استغراب.
- ماذا تفعل هنا؟
- نتدرب...
- ماذا تفعل هنا؟
- جئنا إلى هنا لأجل المناورة
- ماذا تفعل هنا؟ لماذا أنت هنا؟ لماذا لا زلت هنا؟
- ....
- هنالك ثورة في البلد، وأنت لازلت هنا؟ حينما تكون هنالك ثورة في بلدك، عليك التواجد هناك... هل تتابعون أخبار الثورات؟
لم ينتظر جواباً، لأنه انتبه منذ لحظة وصوله لصوت الراديو والأخبار التي تبث بلا توقف... أنهى قدحه من الشاي ونهض واقفاً، فدبت الحركة في المجموعة وأنطلق سريعاً مودعاً وهو يقول: "هنالك ثورة، حينما تكون هنالك ثورة في البلد، يجب أن يكون المرء هناك...".
بقيت جملته ترن كما شارة الأخبار من راديو بي بي سي في عقلي... كنتُ أعرف بأن هنالك ثورة، كنا نتابعها من الراديو، وكنتُ أترجمها للكتيبة وكلهم شوق لمعرفة أخبار الثورات ومتى قد تصل إلى سوريا. حينما سألني "ما الذي تفعله هنا؟" شعرت بنفس الشعور زمن انتفاضة 12 آذار، حينها كنتُ في يريفان وكنتُ أشعر بنفس هذا الشعور، شعور المقيّد أو الخذلان... حينها كان الشعب منتفضاً ونحنُ نكتفي بمتابعة أخبار الانتفاضة دون أن نفعل شيء... كانت كلماته تطنّ وتتضخم في عقليّ مثل الغيمة التي تكبر وتكبر كلما مرّت من فوق البحار والمحيطات، حتى إنها غطت على طنين الدرون التي كانت تتمايل في السماء جية وذهاباً.
حتى مساء ذلك اليوم، مرت مجموعات كثيرة، والكثير منها كانت توجه نفس السؤال: "هل ما زلتم هنا؟". "لماذا الكل يستغرب من كوننا هنا؟" سألت دليلا مستغربة، وبقي سؤالها عالقٌ في الهواء. جميلةٌ تلك الأسئلة التي تبقى في الهواء وتسبح بعيداً مع أي هبة نسيم لتأخذها إلى عوالم أخرى، عوالم يمكنها الجواب.
كانت لدينا خططنا لأجل الغد، كنا سنحتفل غداً ونزرع شجراً في السهل ونخبز خبزاً. لكن كانت للكبار خططهم، فمع المساء جاءتنا رسالة تخبرنا بضرورة العودة إلى مكاننا الأصلي والذي كان يبعد أكثر من سبع ساعات سيراً على الأقدام. وصلنا إلى مكاننا الأصلي بعد منتصف الليل وكان التعب والارهاق قد أخذ منا مأخذاً.

يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة