الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التعاون الدولي في زمن -كوفيد-19-

محمد أوبالاك

2020 / 4 / 7
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


التعاون الدولي في زمن "كوفيد 19".
محمد أوبالاك، محام وباحث في القانون الدولي.
مقدمة عامة:
جاء بمقال السيد فولكر بيرتس مدير "المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية"، المعنون بـ:"أزمة «كورونا» والعلاقات الدولية: أسئلة مفتوحة وافتراضات مؤقتة، المؤرخ في 02 أبريل 2020، تساؤلات واضحة عن مصير المجتمع الدولي ومجالات التعاون بين الدول والمنظمات الدولية في زمن "الكوفيد-19" ، وهو السؤال الذي سبق وأن طرحه المفكر جوليو غالاروتي في كتابه "حدود عمل المنظمات الدولية" .
بيد ان الإجابة عن تساؤل غالاروتي وبيرتس، جاء من خلال ما نشر بالجريدة الإلكترونية AFP، بكون مدراء وكالتين تابعتين للأمم المتحـدة ومنظمة التجارة العالمية، حذروا من خلال تصريحهم الثلاثي بتاريخ: 21 مارس 2020، من خطر حصول "نقص في المواد الغذائية" في السوق العالمية بسبب الاضطرابات في التجارة الدولية وسلاسل الإمدادات الغذائية جراء تفشي فيروس كورونا المستجدّ.
وأن ذلك ما أكده بدوره مدير منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة الصيني "كو دونغيو" وكذا مدير منظمة الصحة العالمية الإثيوبي "تيدروس أدهانوم غيبرييسوس"، ومدير منظمة التجارة العالمية البرازيلي "روبيرتو أزيفيدو"، في بيان مشترك بينهم وهو بيان نادر الحدوث.
ولقد لخص المدراء الثلاث ذلك في تصريح ما مفاده: "إن الغموض حول توفر الغذاء يمكن أن يتسبب بموجة قيود على التصدير" التي قد تتسبب بدورها ب"نقص في السوق العالمية.... وأنه من المهمّ تأمين المبادلات التجارية، بهدف تفادي حصول نقص في المواد الغذائية على وجه خاص، وذلك تفاديا لتباطئ حركة العاملين في قطاعي الزراعة والغذاء، وهو ما قد يتسبب بعرقلة الكثير من الزراعات الغربية، وبحصول تأخر على الحدود لحاويات البضائع، والذي قد ينتج عليه هدر المنتجات القابلة للتلف وزيادة التبذير الغذائي".
وعليه ألحت المنظمات الثلاث على ضرورة "حماية" الموظفين في قطاع الإنتاج الغذائي والعاملين في الصناعة التحويلية للأغذية الزراعية، وأيضاً العاملين في التوزيع بهدف التقليل من تفشي الفيروس في القطاع، والحفاظ على سلاسل الإمدادات الغذائية.ن مؤكدين على كون هذه الإجراءات الحمائية، تهدف إلى ضمان سلامة صحة ورفاهية المواطنين، وهو ما ينبغي معه، ضمان عدم تسبب مجمل التدابير التجارية، باضطرابات في سلاسل الإمدادات الغذائية".
وهو الأمر الذي جعلهم يؤكدون على ضرورة ترسيخ مبدأ "التعاون الدولي"، في زمن وباء كوفيد-19، للتصدي لمخاطر النقص غير المبرر للمنتجات الأساسية، الذي من شأنه مفاقمة الجوع وسوء التغذية.
وإن قراءتنا للبيان أو التصريح المشترك الصادر عن المدراء الثلاث، الذي تم ختمه بعبارة "ضرورة ترسيخ مبدأ التعاون الدولي" في عالم تحكمه ويلات فيروس الكورونا المطور "كوفيد-19"، هو ما يجعلنا نتناول موضوع مصير التعاون الدولي في عالم تتجاذبه تيارات وأيديولوجيات تحكمها المصالح الشخصية أكثر مما يحكمها التفكير في المصير الجماعي لدول عالم وحدته معاناته جراء تفشي الوباء، كما وحدته سياسة اتخاذ "الحجر الصحي" كإجراء وقتي للحد من انتشار الفيروس بين أكبر عدد من ساكنة الكوكب الأزرق.
وأنه بناء عليه، سوف نعمد إلى مناقشة موضوع "التعاون الدولي في ظل انتشار كوفيد-19"، من خلال تقسيم الموضوع إلى مبحثين، مبحث نظري نناقش فيه مفهوم "التعاون الدولي" وإبراز أهم الفاعلين الرئيسين فيه (الدول والمنظمات الدولية)، مع استعراض مجالات هذا التعاون، في حين سوف نخصص المبحث الثاني لإبراز صور التعاون الدولي في زمن "كوفيد-19".
المبحث الأول: التعاون الدولي (المقتضيات الاتفاقية والفاعلين ومجالات التعاون):
إن محاولة تحديد مفهوم واضح وصريح لعبارة "التعاون الدولي" وكذا إبراز أهم الفاعلين الرئيسيين والثانويين فيه، وكذا تبيان أهم مجالات تفعيل هذا التعاون، هي محاولة محفوفة بمؤشرات النجاح والفشل، في سبيل احتواء هذه العبارة التي تتسع وتضيق في آن حسب ظروف الزمان والمكان، كونها عبارة يتم تداولها من زوايا مختلفة، استجابة لمصالح جماعية أو فردية، إذ أنه في الوقت الذي نلحظ فيه محاولة المقتضيات المضمنة بميثاق منظمة الأمم المتحدة، تفعيل التعاون الدولي بشكل واقعي، وإقناع الدول الأعضاء وكذا الوكالات الدولية المتخصصة المتفرعة عنها (الأسرة الأممية) بنجاعة هذا التعاون، نجده هو نفسه الوقت الذي نلمس فيه تحكم أهم نظرية من نظريات العلاقات الدولية في تحديد مفهوم التعاون الدولي وإبراز فاعليه وإعطاء صورة عن أهم مجالات التفعيل، إنها بكل اختصار نظرية " الليبرالية الجديدة" التي أصبح لها النصيب الأوفر تنظيريا وواقعيا، في تعريف التعاون الدولي وترشيح فاعليه الأساسيين، وتوجيهه نحو إرضاء رغبات وهواجس الدول العظمى على حساب المطالب المشروعة لدول أقل نموا وأكثر تخلفا.
أنه وانتصارا للشق الأكاديمي في التحليل والمناقشة، سوف نعمد إلى محاولة تعريف فكرة "التعاون الدولي"، من خلال ما استقر عليه جانب من فقه القانون الدولي الذي يرى أن التعاون الدولي هو: "مصطلح يُطلق على الجهود المبذولة بين دول العالم من أجل تحقيق الأمن والسّلم الدولييّن ومواجهة التحدّيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنيّة، كما يمكن للتعاون الدولي أن يتم على مستوى الأفراد بين الدول والمجتمعات والأعراق المختلفة، إضافةً إلى المنظمات الحكوميّة وغير الحكومية".
ويبرز التعاون الدولي في الاتفاقيّات الدوليّة، كما يمكن أن يتجسّد في المساعدات الإنسانيّة، مجسّدةً مبادئ أرستها الأمم المتحدة كخارطة طريق للتعاون الدولي في العالم.
و هناك مستويات للتعاون الدولي، من بينها العلمي، والسياسي، والقضائي، والاقتصادي، والعسكري، وكذا في مجال البيئة والتصحر وتبادل المعلومات.
ويظل التعاون الدولي جزء من المنظومة العالميّة التي تسعى الأمم المتحدة من خلالها لتحقيق إنجازات لكافة التجمعات الإنسانية حول العالم .
بيد أن أوضح وأشمل تعريف لفكرة "التعاون الدولي" من الناحية الواقعية، هو ما جاء من خلال ميثاق منظمة الأمم المتحدة، أو ببعض اتفاقيات إنشاء الوكالات المتخصصة المنبثقة عنها، عن طريق تقنية مصادقة وانضمام الدول الأعضاء إليها، أو من خلال مناقشتنا لمنظور "مدرسة الليبرالية الجديدة" المتحكمة الرئيسية في العلاقات الدولية، في رسم خارطة طريق "التعاون الدولي" عالميا.
أولا: التعاون الدولي من خلال مقتضيات ميثاق منظمة الأمم المتحدة وبعض من اتفاقيات / دساتيرالوكالات الدولية المتخصصة المنبثقة عنها:
أ- التعاون الدولي من خلال مقتضيات ميثاق منظمة الأمم المتحدة:
يعرف الفصل التاسع من ميثاق منظمة الأمم المتحدة المتعلق بالتعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي التعاون الدولي حسب العبارات التي ضمنت بالمواد من 55 إلى 60 من الميثاق:


المادة 55
رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سليمة ودية بين الأمم المتحدة مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، تعمل الأمم المتحدة على:
( أ ) تحقيق مستوى أعلى للمعيشة وتوفير أسباب الاستخدام المتصل لكل فرد والنهوض بعوامل التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي.
(ب) تيسير الحلول للمشاكل الدولية الاقتصادية والاجتماعية والصحية وما يتصل بها، وتعزيز التعاون الدولي في أمور الثقافة والتعليم.
(ج) أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء، ومراعاة تلك الحقوق والحريات فعلاً.
المادة 56:
يتعهد جميع الأعضاء بأن يقوموا، منفردين أو مشتركين، بما يجب عليهم من عمل بالتعاون مع الهيئة لإدراك المقاصد المنصوص عليها في المادة 55.
إن تفكيكنا للعبارات التي جاءت بالمادتين 55 و 56 من الفصل التاسع ممن ميثاق الأمم المتحدة، سوف يجعلنا نلاحظ من الزاوية "اليوتوبية" المدافعة عن فكرة "المفترض أن يكون"، مدى روعة الأفكار التي تدافع عنها هذه المادة، من ترسيخ الدول الأعضاء بالمنظمة، لمبادئ الاستقرار والرفاهية، وضمان علاقات دولية سليمة وودية، وتحقيق للمساواة في الحقوق والحريات فيما بينها.
إلا أن إطلاعنا على مجموع تصريحات الأمناء العامون للمنظمة نفسها، والتي لخصها السيد "داغ همرشولد"، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، في تصريحه: "إن الأمم المتحدة لم يتم إنشاؤها لقيادة البشرية إلى الجنة، بل لحمايتها من الجحيم"، وهو ما جعل التساؤل المحوري يدور حول: هل تم وضع سقف أعلى للتوقعات المنتظرة من نشاطات الأمم المتحدة؟ وما هو الجانب الذي تقف فيه داخل هذا النقاش المتمحور حول دور الأمم المتحدة، ولماذا؟
بيد أن ما يوضح فشل منظمة الأمم المتحدة في تفعيل جميع المقتضيات المنصوص عليها بميثاقها، هو ما يستفاد من مجموع المقالات الصادرة عن بعض من المفكرين المتخصصين في حقل القانون الدولي عموما، وفي مجال قانون المنظمات الدولية على الخصوص ، والتي تجمع على أن الأزمات المتكررة لمنظمة الأمم المتحدة، وصور فشلها الذريع في نجاعة تطبيق القرارات الصادرة عنها، يجعل الظرف مواتيا في تحديد المبتغى من إنشاء منظمة تعبر عن حسن النوايا بعيدا عن التطبيق الفعلي للقرارات الصادرة عنها.
ويرى هؤلاء المفكرون، أنه وبعد مرور أكثر من 75 سنة عن إنشاء "منظمة الأمم المتحدة"، فإنها لازالت توفر لأعضائها الـ 193 محفلا للنقاش كجانب من المهمة الموكولة إليها للترويج للسلم وحقوق الإنسان، لكنها بالمقابل لا زالت تناقض نفسها، بمنحها حق النقض (الفيتو) للدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، كما أنها لازالت غير قادرة على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، من خلال إقناع الدول الأعضاء بها باستقلالها وتوفرها على الصفة والأهلية والمصلحة في اتخاذ القرارات وتنفيذها دون الرجوع إلى آرائهم المتنافرة.
ب: التعاون الدولي من خلال مقتضيات اتفاقيات/ دساتير إنشاء بعض الوكالات
الدولية المتخصصة:
نجد بالفصل التاسع من ميثاق الأمم المتحدة، المواد من 57 على 60، مقتضيات تتحدث عن دور الوكالات الدولية المتخصصة - عملا بما جاء بمقتضيات اتفاقيات ودساتير إنشائها- في ترسيخ فكرة "التعاون الدولي" في شقيه الاقتصادي والاجتماعي، من خلال تنسيق الجهود :
المادة 57:
1. الوكالات المختلفة التي تنشأ بمقتضى اتفاق بين الحكومات والتي تضطلع بمقتضى نظمها الأساسية بتبعات دولية واسعة في الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتعليم والصحة وما يتصل بذلك من الشؤون يوصل بينها وبين "الأمم المتحدة" وفقا لأحكام المادة 63.
2. تسمى هذه الوكالات التي يوصل بينها وبين "الأمم المتحدة" فيما يلي من الأحكام بالوكالات المتخصصة.
المادة 58:
تقدم الهيئة توصيات بقصد تنسيق سياسات الوكالات المتخصصة ووجوه نشاطها.
المادة 59:
تدعو الهيئة عند المناسبة إلى أجراء مفاوضات بين الدول ذات الشأن بقصد إنشاء أية وكالة متخصصة جديدة يتطلبها تحقيق المقاصد المبينة في المادة 55.
المادة 60:
مقاصد الهيئة المبينة في هذا الفصل تقع مسؤولية تحقيقها على عاتق الجمعية العامة كما تقع على عاتق المجلس الاقتصادي والاجتماعي تحت إشراف الجمعية العامة، ويكون لهذا المجلس من أجل ذلك السلطات المبينة في الفصل العاشر.
وبناء على مقتضيات هذه المواد، سوف نجد أن أنصار المنظمة الأممية يشددون على أهمية دور الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة ومجلسها الاقتصادي والاجتماعي، والوكالات المتخصصة، التي تسهر على تأمين الرعاية الصحية والتربية والتعليم، وحقوق الإنسان، والترويج لحماية البيئة، وتقديم المساعدة الإنسانية، وهو ما يمنح هذه الوكالات صفة الفاعل الدولي الرئيسي في ترجمة مهام منظمة الأمم المتحدة على أرض الواقع، وهو ما استقيناه من خلال ما ضمناه بالمقدمة، بخصوص التصريح المشترك الصادر عن أهم ثلاث وكالات دولية متخصصة ترجمت بشكل واقعي إمكانية تفعيل فكرة "التعاون الدولي" على أرض الواقع مع انتظار النتائج طبعا .
وأنه استنادا إلى البيان الثلاثي المشترك المشار إليه بالمقدمة العامة للموضوع، الصادر عن منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة والمنظمة العالمية للتجارة، سوف نعمد إلى اتخاذ مقتضيات دساتير/ اتفاقيات إنشاء هذه المنظمات، كنموذج حي لإبراز السند القانوني لترسيخ فكرة التعاون الدولي هذا.

- مقتضيات التعاون الدولي بدستور منظمة الأغذية والزراعة FAO:
تشير الفقرة الثالثة في بنودها "ألف" و"باء" و "جيم" من المادة الأولى المتعلقة بعمل منظمة الأغذية والزراعة، إلى إمكانية خلق أواصر التعاون بين المنظمة والدول وكذا بين المنظمة وغيرها من المنظمات الحكومية وغير الحكومية، عملا بمقتضيات المادة الثانية والملحقين 1 و 21 ، قصد تحقيق أهداف المنظمة في مجال التغذية والزراعة ومحاربة الجوع والفقر .
- مقتضيات التعاون الدولي بدستور منظمة الصحة العالمية :
نجد بالمادة الثانية من دستور منظمة الصحة العالمية ما يشير إلى مهام المنظمة في القيام بكل ما يلزم علميا وتقنيا وماديا من أجل التعاون مع الدول الأعضاء المصادقين على مقتضيات الدستور أو المنظمين إلى الدستور أو الدول الأعضاء بمنظمة الأمم المتحدة، للحماية من الأمراض والآفات والأوبئة، وذلك عملا بمقتضيات من المادة الثالثة إلى المادة الثامنة، في حين نجد تنسيقها وتعاونها مع المنظمات الحكومية وغير الحكومية، تنظمه مقتضيات المواد من التاسع والستون إلى الثاني والسبعون من دستور المنظمة.
- مقتضيات التعاون الدولي باتفاقية المنظمة العالمية للتجارة :
تشير المادة الثانية من اتفاقية إنشاء المنظمة العالمية للتجارة، إلى إمكانية التعاون مع الدول الأعضاء من أجل خلق جسور لحرية التجارة العالمية، في حين أشارت بالمادة الثالثة إلى ضرورة تعاونها مع الوكالتين الدوليتين المتخصصتين (صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك العالمي) ، وقد جعلت الاتفاقية من المادة الخامسة مجالا للتعاون بين المنظمة العالمية للتجارة وباقي المنظمات الحكومية وغير الحكومية.
ثانيا : مقتضيات التعاون الدولي من خلال مدرسة الليبرالية الجديدة:
تم اختيار الحديث عن مدرسة الليبرالية الجديدة لكونها هي المدرسة التي تطرقت لمواضيع العلاقات الدولية في إطار التفاعل داخل بوثقة المجتمع الدولي، مما جعلها تتطرق لفكرة "التعاون الدولي"، و لكون هذه المدرسة هي من بين المدارس التي أصبحت تلعب الدور المحوري في مجال التنظير للعلاقات الدولية لما بعد انتهاء مرحلة القطبية الثنائية، كما أنها تعد من بين أهم المدارس المواكبة للتطورات الهامة التي يعرفها المجتمع الدولي بفترة الألفية الثالثة، وهو التعريف الذي سوف نستقيه من مفهوم المخالفة الذي جاء به التساؤل الذي تطرحه هذه المدرسة: "ما هي معوقات التعاون الدولي؟" .
ترى هذه المدرسة أن من بين أهم نقط ترسيخ مفهوم "التعاون الدولي" هو وجود مصلحة مشتركة، وهو ما جاء على لسان بعض مفكريها تحت عبارة: "سيكون من الخطأ أن نصف الليبرالية الجديدة بأنها تحاج بسهولة إحراز التعاون لمجرد أن الاعتمادية المتبادلة قد ازدادت، فقد تكون بين الدول مصلحة مشتركة في السيطرة على انتشار فيروس قاتل...لكن مجرد وجود مصالح مشتركة في (الوصول إلى) حل فعال، لا يقود بسهولة أو تلقائيا إلى ذلك الحل".
وترى هذه المدرسة أن "التعاون الدولي" هو مكسب المكاسب، وأنه على الدول الاقتناع بضرورة التعاون من أجل تحقيق مكاسب مطلقة بغض النظر عن المكاسب الضيقة التي تحققها فئة دولية على حساب فئة أخرى، وذلك بعيدا عن فكرتي الفوضى والخداع المثبطتين للتعاون الدولي، وكذا بعيدا عن نظرية اللعبة التي جاء بها المفكر "كينيث أوي" المنتمي المخلص على هذه المدرسة، في كتابه "التعاون في ظل الفوضى"، والذي لخص فيه فكرة أن الألعاب تعاونية أو غير تعاونية، بناء على مزج بين الرياضيات والمنطق لتحليل التفاعل الاستراتيجي بين صناع القرار في مجال التعاون الدولي، وهي التي تعني أن الألعاب التعاونية هي ذات مجموع متغير أو مجموع إيجابي، تكتسب فيه الدول المتعاونة أو تخسر بنسب متفاوتة، نتيجة لتفاعلها في إطار المجتمع الدولي، وفي إطار من الاتفاق والتوافق، في سبيل تحقيق فكرة التعاون، بناء على شروط اللعبة وأهدافها، التي قد تتأتى عن طريق تكرار التجربة وانتظار النتائج في ظروف الاعتمادية المتبادلة، والتي من بين سبل إنجاحها هو في إجراء الاجتماعات المستمرة والمنتظمة بين زعماء الدول ومديري المنظمات الدولية وصناع السياسات، في سبيل معرفة أولويات الدول وحاجياتها في الظروف العادية والطارئة، وهو ما عبر عنه المفكر "روبرت جيرفيس" بالتصميم العقلاني للمؤسسات.
المبحث الثاني: صور التعاون الدولي في زمن "كوفيد-19":
حيث أنه استنادا لما تم ذكره بالمقدمة العامة للموضوع أو ما تم إبرازه من خلال المقتضيات الاتفاقية لميثاق إنشاء منظمة الأمم المتحدة وكذا دساتير إنشاء الوكالات الدولية المتخصصة الثلاثة المتعلقة بالصحة والأغذية والزراعة والتجارة العالمية، أو من خلال ما استنبطناه من تنظير مدرسة الليبرالية الجديدة لمفهوم التعاون الدولي، سوف نقوم بتسليط الضوء على صور التعاون الدولي في ما بين المنظمات/الوكالات المتخصصة الثلاثة.
أولا: التعاون الدولي بين منظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية:
نجد - مثلا - أن علاقة التعاون الدولي بين منظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية، ما تم ترجمته في عام 1961 من خلال إنشاء المنظمتين لـ " هيئة الدستور الغذائي" وما لحقها من تعديلات وإضافات على مر التجارب المتراكمة بشكل برغماتي، وهو الدستور الذي نص على وضع معايير ومبادئ ونصوص غذائية، مثل تدوين الممارسات في إطار برنامج المواصفات الغذائية المشترك بين المنظمتين والذي سطر أهم أهداف البرنامج الرئيسية هي حماية صحة المستهلك، والتأكيد على التجارة العادلة، والتشجيع على تنسيق جميع الأعمال المتعلقة بالمعايير الغذائية التي تشارك بها المنظمات الحكومية الدولية والمنظمات غير الحكومية
ولقد سبق للمنظمتين أن عقدتا بروما بدجنبر 2016 ندوة بخصوص ضمان الأنماط الغذائية الصحية والتغذية الكافية للجميع أمر ضروري للقضاء على الجوع وسوء التغذية بحلول 2030، وهي الندوة التي اختتمت بإشارة قوية إلى أهمية تشجيع الأنماط الغذائية الصحية وضمان توفر التغذية الكافية للجميع من أجل القضاء على الجوع وسوء التغذية ، تحقيقاً للهدف الذي حددته الدول الأعضاء في الأمم المتحدة العام الماضي.
وأن التعاون الدولي بين المنظمتين، هو من باب بذل الجهود المشتركة على جميع الأصعدة لتحسين التغذية هي قضية عامة فقد دعا السيد "دا سيلفا" إلى الالتزام السياسي بشكل أكبر على المستوى الوطني وكذلك إلى تعاون أكبر بين الجهات ذات العلاقة ومن بينها القطاع الخاص والمجتمع المدني وأعضاء البرلمانات.
وفي كلمته أكد السيد "دا سيلفا" كذلك على أهمية تمكين أصحاب الحيازات الصغيرة والعائلات الزراعية التي تحتاج إلى تحسين إمكانية وصولها إلى الموارد الإنتاجية، مؤكدا على ضرورة أن يكون لها "صوت متساوٍ ووصول متساوٍ وحقوق متساوية في سعيها لإنهاء الجوع وسوء التغذية".
بدوره قال السيد "اوليغ تشينوف" مساعد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية للأمراض غير المعدية والصحة العقلية: "إن تحديات الغذاء والتغذية اليوم معقدة ولا يمكن معالجتها فقط من خلال عمل قطاع الزراعة أو قطاع الصحة بشكل منفرد".
وأضاف أن "جعل الفاكهة والخضروات والبقوليات أكثر توفراً، يتطلب دعم السياسات من قطاع الزراعة، كما يحتاج إلى تقنين المنتجات وملصقات الأغذية والإعلانات والضرائب، إلى دعم السياسات من قطاع الصحة العامة، مضيفا أنه خلال اليومين الماضيين، تعلمنا الكثير حول مختلف السياسات والممارسات التي تتبناها الدول، وأنه في حال تطبيقها من قبل مزيد من الحكومات وبشكل واسع، فإن هذه السياسات والممارسات يمكن أن تعيد تشكيل النظم الغذائية وتحسن تغذية وصحة الجميع".
ولقد ظهر التعاون بوضوح بين المنظمتين، خلال هذين الشهرين الماضيين من سنة 2020، نظرا لاجتياح فيروس الكورونا "كوفيد-19" لأغلب دول العالم انطلاقا من الصين ومرورا بإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا وانتهاء بالولايات المتحدة الأمريكية والمغرب، والذي ترجم في محاولة "نهج الصحة الواحدة"، اعترافا بالصلة بين البشر والحيوانات والنباتات وبيئاتها المشتركة في جهد متكامل للحد من الأمراض والآفات وضمان إمدادات غذائية آمنة في الفترات العادية والفترات العصيبة كهذه التي نعيشها، وهو التعاون الناتج عن توصل المنظمتين إلى كون الأمراض المعدية، تنتشر في الحيوانات والبيئة، وبعضها يمكن أن يمتد ويؤثر على صحة الإنسان.
وتعمل المنظمتين باستمرار على دعم الدول الأعضاء بها أو الدول الأعضاء بمنظمة الأمم المتحدة، على محاولة وقاية الشعوب من الأمراض والتهديدات الصحية ذات الصلة، وكشفها ومكافحتها أينما ظهرت، ويشمل ذلك رصد ظهور مقاومة مضادات الميكروبات، فضلا عن البرامج النشطة لمكافحة الأمراض الحيوانية والقضاء عليها، مثل مكافحة الحيوانات المجترة وحمى الخنازير الأفريقية، فضلا عن الأمراض التي تنتقل من الحيوانات إلى البشر، بما في ذلك أنفلونزا الطيور، وفيروس داء الكَلب والفيروس الحالي "كوفيد-19".
وإن التعاون بين المنظمتين هو مبني على استنتاجهما لصور الترابط بين البشر والحيوانات والبيئة، له أهميته كبرى في مكافحة أي تهديد للنظم الغذائية والإنتاج الزراعي وسبل العيش، ويكتسي هذا التركيز أهمية خاصة في المجتمعات الزراعية الريفية حيث توفر الحيوانات النقل والوقود والملابس، فضلا عن الغذاء.
وتبنيا للتحدي الذي أخذته المنظمتين على عاتقيهما، فإن تعاونهما المشترك ينصب على مد يد العون للعديد من الشركاء، بما في ذلك المنظمة العالمية لصحة الحيوان، على تطبيق نهج مشروع "الصحة الواحدة" محلياً وعالمياً، مع التركيز بشكل خاص على تعزيز القدرات عند الحاجة وحماية المجتمعات الأكثر ضعفا .
ثانيا: صور التعاون بين منظمة الصحة العالمية والمنظمة العالمية للتجارة:
نظرا لحاجة واضعي السياسة الصحية اليوم إلى فهم واضح لعمليات الابتكار التي تولّد تكنولوجيات جديدة، وسبل نشر هذه التكنولوجيات في الأنظمة الصحية، تسعى منظمة الصحة العالمية والمنظمة العالمية للتجارة بحضور فاعل لمنظمة "الويبو"، من خلال الدراسة المشتركة بينهما، في سبيل تحسين فهم التفاعل بين مجالات السياسة العامة المختلفة المرتبطة بالصحة والتجارة والملكية الفكرية، وكيفية تأثيرها في الابتكار الطبي والنفاذ إلى التكنولوجيات الطبية، وهي الدراسة التي شملت مجموعة واسعة من التجارب والبيانات المستخلصة من دراسة التفاعل بين الملكية الفكرية وقواعد التجارة وديناميكيات النفاذ إلى التكنولوجيات الطبية والابتكار فيها، وهو ما سوف يؤدي إلى تضافر جهود منظمة الصحة العالمية ومنظمة التجارة العالمية، في سبيل الجمع بين مجالات تخصّص كل من المنظمات الثلاث.
وتهدف الدراسة إلى الإعلام بأنشطة التعاون التقني الجارية التي تنفذها المنظمتين، إلى دعم المناقشات في السياسة العامة المعدة لتلبية حاجات واضعي السياسات، الذين يسعون إلى عرض شامل لمجمل القضايا، وحاجات المشرّعين والمسؤولين الحكوميين والمندوبين لدى المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية والباحثين، استناداً إلى سنوات طويلة من الخبرة الميدانية في مجال التعاون التقني بينهما .
ثالثا: صور التعاون الدولي بين منظمة الأغذية والزراعة والمنظمة العالمية للتجارة:
صرح مدير منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة السيد "كو دونغيو"، ومدير منظمة التجارة العالمية السيد "روبرتو أزيفيدو"، بتاريخ 21 مارس 2020، بأن الغموض حول توفر الغذاء يمكن أن يتسبب بموجة قيود على التصدير، التي قد تتسبب بدورها نقصا في السوق العالمية.
ونجد بوادر التعاون الدولي بين منظمة الأغذية والزراعة والمنظمة العالمية للتجارة، هو ما استقيناه من تصريح مديرها العام السابق "جوزيه غرازيانو دا سيلفا"، خلال تصريحه في أكتوبر 2017 بروما:"أن اتفاقيات التجارة العالمية والمعايير والإجراءات المتناسقة حول سلامة الأغذية والتي تفيد العائلات الزراعية الفقيرة في الدول النامية بدلاً من أن تضر بها، هي أهداف رئيسية في محادثات التجارة الدولية ".
ولقد أضاف في تصريحاته للجنة مشاكل السلع: "يجب أن نهدف إلى التوصل إلى نتيجة تقربنا خطوة من الوصول إلى نظام تجاري عالمي متوازن وعادل". وأكد على أهمية منح الأولوية للتوصل إلى اتفاقيات عالمية بدلاً من الإجراءات التجارية الثنائية أو الإقليمية التي انتشرت في السنوات الأخيرة.
وأن محور هذه التصريحات، هو ما تم تسطيره بالمؤتمر الوزاري الحادي عشر الذي ترتب عنه اجتماع كبار المسؤولين من جميع أنحاء العالم في بوينس آيرس بالأرجنتين خلال دجنبر 2017، والذي صدر عنه مجموعة توصيات وبرامج ضمنت بمطبوعات نحت منحى الزيادة في التجارة العالمية بالمنتجات الزراعية، وتوفير بيانات المنظمة وتحاليلها لترسيخ رؤى آنية عن الأسئلة الرئيسية المطروحة في مجال السياسات المتعلقة بالأمن الغذائي لدول العالم، وهو ما تمت مناقشته من خلال تقرير السلع الأساسية والتنمية لعام 2017، الذي نشر بالتشارك مع مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية بناء على دراسات الحالات القطرية، والجواب عن التساؤل المحوري: كيف أن التبعية في الحصول على السلع الأساسية تؤثر على النمو الاقتصادي واستقرار الاقتصاد العام وقيم دليل التنمية البشرية في البلدان النامية، والتي تشمل السلع الأساسية الزراعية وأسواق الأغذية والأعلاف في العالم، وهو ما يعبر عن اجتهاد منظمة الأّغذية والزراعة ومنظمة التجارة العالمية لوضع معايير دولية للأغذية وتحقيق توافق أفضل بين الزراعة والأغذية والسياسات الأمنية؟.
وأن البيان الختامي المترجم لما جاء بمطبوعات منظمة العالمية للتجارية، جاء كبيان لنوايا فعلية تكرس التعاون الدولي بين المنظمتين، وهو ما ذكر بالبند الاتفاقي بين منظمة التجارة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة، الذي تمحور حول التخزين العام للمنتجات الزراعية في سبيل ضمان الأمن الغذائي في الظروف العادية والظروف الاستثنائية والطارئة، تكريسا لما جاء ببنود الاتفاق الذي تم مناقشته بالمؤتمر المنعقد بنيروبي عام 2015 المتعلق بإنهاء دعم الصادرات الزراعية .
خاتمة:
تبقى إمكانيات التعاون بين الفاعلين في المجتمع الدولي، إحدى الركائز المعول عليها في إنجاح ربط أواصر العلاقات الدولية بين دول تشكل عالما من الإرادات والمصالح المتقاربة أحيانا والمتنافرة أحيانا كثيرة.
كما تبقى صور التعاون الدولي كثيرة ومتنوعة تنوع ظروف الزمان والمكان، وهي صور تعاون تحكمها فترات عادية ومريحة، وأخرى استثنائية وطارئة، كما هو الأمر الآن في زمن تفشي فيروس كورونا "كوفيد-19"، الزمن الذي يحتم وبشكا استعجالي ومصيري، نفض الغبار على مقتضيات أداء المهام التي تزخر بها كافة اتفاقيات ودساتير إنشاء المنظمات والوكالات الدولية.
و لربما سوف نرى في القادم من الأيام، مدى نجاح دول العالم في تفعيل فكرة التعاون في ما بينها، في سبيل تخطي تبعات فيروس "الكورونا: كوفيد-19"، بأقل حدود ممكنة من الخسائر البشرية والسياسية والاقتصادية.
















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريبورتاج: تحت دوي الاشتباكات...تلاميذ فلسطينيون يستعيدون متع


.. 70 زوبعة قوية تضرب وسط الولايات المتحدة #سوشال_سكاي




.. تضرر ناقلة نفط إثر تعرضها لهجوم صاروخي بالبحر الأحمر| #الظهي


.. مفاوضات القاهرة تنشُد «صيغة نهائية» للتهدئة رغم المصاعب| #ال




.. حزب الله يعلن مقتل اثنين من عناصره في غارة إسرائيلية بجنوب ل