الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث عن عائشة: الفصل الثامن عشر/ 1

دلور ميقري

2020 / 4 / 7
الادب والفن


صباحٌ خريفيّ متجهّم، خيّمَ بكآبته على المنزل المنكوب بفقدان روحه الحيّة، التي شعّت مثل شهابٍ ثم تهاوت في ظلمةٍ لا قرار لها. رجال العشيرة وشبابها، وفيهم مَن كان قد بقيَ في المنزل حتى ساعة متأخرة ليلاً للاطمئنان على قريبهم المصاب أو تقديم مساعدةٍ ما، بكّروا في المجيء على أثر علمهم بالخبر الصاعق غير المتوقّع. شكّلوا ما يُشبه السلسلة، بوقوفهم جنباً إلى جنب في مدخل المنزل والفناء وأرض الديار. بينما النسوة توزعن في الإيوان والحجرات، على الأخص في غرفة نوم سارة، أينَ انحنت هيَ طوال الوقت على ابنها الفقيد ـ كما لو أنها تمثال الأم في منحوتة " الرحمة " لمايكل أنجلو.
جنازة مستو كانت مهيبة، عُطّلت أشغالُ الخلق لأجل المشاركة فيها، وطوال الطريق من المسجد إلى مقبرة مولانا النقشبندي كانت تتضخّم بمرورها من الحارات الأخرى. أصواتُ الرصاص، صدحت أكثر من المعتاد كون الميتُ شاباً قتيلاً، وفوق ذلك، ابنَ الزعيم السابق للحي. الريح أيضاً، هبّت أكثر من المألوف في هذا اليوم الخريفيّ المبكر وكما لو أنها تود نثرها في كل جهة، أصواتِ الرصاص والتهاليل والإنشاد الدينيّ، المرافق للجنازة. أخيراً، ارتقى الموكبُ الطريقَ الصاعد إلى التربة، وما لبث حفّار القبور ومساعدوه أن استلموا الجثمانَ. مع استمرار عملية الدفن حتى بروز القبر كتلّ صغير من التراب، كان عويلُ النسوة، المتجمعات في جانب منعزل، يشقُ عنانَ السماء. على أثر تفرق الرجال، حلّ الصمت فجأة على أولئك النساء مع تقدّم والدة الفقيد إلى قبره كي تجثم هناك ذاهلةً، شبه غائبة عن الوعي.
" تعالي لنذهب، يا خالة "، خاطبت إحداهن سارة وكان الخمارُ الأسود يغطي كامل هيئتها. رفعت الأم الثكلى رأسها عن القبر، لتتمعن في صاحبة الصوت الفتيّ. كانت آية، التي اندفعت من بين صفوف النسوة المشيّعات بعدما هزها من الأعماق منظرُ والدة مستو. مع تساقط المطر على حين غرة، أعطت هذه الأخيرة يدها للفتاة لتُنهضها وتقودها من ثم إلى حيث تجمّعت بقية النسوة.
في عزاء السيدات، الذي جرى قبل غروب الشمس بحَسَب التقاليد، دعت سارة حبيبةَ ابنها الراحل للانضمام إلى مكانها على الأريكة، المتصدرة حجرة الإيوان. أم الفتاة وشقيقاتها الثلاث، كن جالسات معاً على أريكة أخرى. الجو كان قد مال إلى الصحو منذ العصر، والريح تركت المكانَ للهواء العليل، المحمّل بعبير عريشة الياسمين، المتسلقة على الجدار الواطئ، الفاصل أرضَ الديار عن الحديقة.
بدَورها، فحكاية الحب القصيرة الأجل، التي جمعت مستو وآية، ما لبثَ عبيرُها أن انتشرَ منذئذٍ في الحارة. فأضحت الحكايةُ شبيهةً بالملاحم الكردية، التي كان المغنّي ينشدها فيما مضى في عشية كل نيروز بنفس حجرة الإيوان.

***
ديبو، ابن أخي الفقيد وصديقه الأقرب، هوَ في حقيقة الأمر مَن نشرَ تلك الحكاية حينَ أُفلتَ لسانُه ذات ليلة بتأثير الخمر. لحُسن الحظ، أنّ مستو الراحل لم يكن قد فشا له سرَّ لقائه الخاطف مع الفتاة؛ وإلا لصار قصة مثيرة، يتم تداولها من لسانٍ إلى لسان مع الكثير من البهارات. والله يعلم بعدئذٍ ماذا سيكون مصيرُ بطلة القصة، أو مستقبلها على الأقل.
قبل ذلك، وتحديداً في اليوم التالي لتشييع عمه الصغير، استدل ديبو على هوية القاتل. كان تصرفاً بعيداً عن الحكمة، تعهّدُ حسينو إبلاغَ ابن شقيقه المتهوّر باسم الرجل. هذا بصرف النظر عن تأكيده لديبو، أنّ إطلاق الرصاص جرى بشكل غير مقصود. برغم ذلك، أخذ الأخيرُ مسدسَ خدمته في الدرك، وما عتمَ أن ولّى وجهه صوبَ البستان. تعمّدَ أن يكون هناك قبل منتصف الليل بساعتين، وكان نفس التوقيت حينَ لقيَ صديقُه مصرعه. الرجلُ المقصود، كما علمنا، كان يناوب في البستان كناطور. كان شاباً في مبتدأ عقده الثالث، مقطوعَ النَسَب تقريباً، يتولى مسؤولية شقيقين فتيين عقبَ وفاة والده.
" أنا ابن أخي حسينو، وسأقوم الليلة بالمناوبة بدلاً عنه كونه مشغولاً بالعزاء "، قال للرجل حينَ زعم ملاقاته على سبيل المصادفة تحت ضوء القمر. أعربَ الآخرُ عن تعازيه وأسفه، غيرَ مدركٍ أن حياته باتت أيضاً في كف الفناء. فما هيَ إلا هنيهة وتقدّم ديبو ليتجاوز الرجلَ، وبعد سيره خطوات قليلة، التفتَ إليه مشهراً المسدسَ: " وهذه لك من مستو..! "، قالها وهوَ يرمي الطلقات.
تلك كانت الجريمة الأولى لابن موسي، البكر. أفلتَ من عقاب القانون، طالما أن حادثة القتل سُجّلت ضد مجهول كونها افتقدت إلى شهود. فيما بعد، استسهلَ ديبو أمرَ إراقة الدماء في حادثةٍ أكثر هولاً وشناعة، كانت ضحيتها فتاة من العائلة وعلى خلفيّة قضية شرف ملفقة.

* مستهل الفصل الثامن عشر/ الكتاب الرابع، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج عادل عوض يكشف كواليس زفاف ابنته جميلة عوض: اتفاجئت بع


.. غوغل تضيف اللغة الأمازيغية لخدمة الترجمة




.. تفاصيل ومواعيد حفلات مهرجان العلمين .. منير وكايروكي وعمر خي


.. «محمد أنور» من عرض فيلم «جوازة توكسيك»: سعيد بالتجربة جدًا




.. فـرنـسـا: لـمـاذا تـغـيـب ثـقـافـة الائتلاف؟ • فرانس 24 / FR