الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السجدة (2)

بولات جان

2020 / 4 / 7
الادب والفن



قبل يومين

كما هي العادة، تحدث تلك الجلبة في كل صباح، أو لنقل في كل فجر قبل إنبلاج الشمس من خلف الأفق البعيدة، إنها جلبة "روج باش روج باش روج باش". تبدو وكإنه صوت المؤذن الذي يدعو إلى الصلاة والفلاح والصلاح، أفيقوا فقد ولد يومٌ آخر، يومٌ ككل الأيام، عملٌ ومهامٌ وحركة دائرية لا تنتهي، تتكرر متشابهة وتتمايز يومياً وفصلياً وسنوياً، فتكتسب معها عادة الاستيقاظ قبل انبلاج الشمس من خلف الأفق، من خلف السحب ومن خلف القمم البعيدة. "دعهم، لا توقظهم، قد وصلوا قبل ساعتين فقط، دعهم يستريحوا هذا الصباح"، كان الصوت كفيلاً بإبعاد المنادي ومحدث الجلبة في هذا الصباح، لكن تلك الجلبة كانت قد فعلت ما يجب أن تفعله، فقد ايقظت الجميع؛ وجاء الصوت الآخر كإشارة لنا كي نبقي رؤوسنا تحت البطانية الخشنة وفوق الحقائب الخاكية التي تغدو وسائد في الليل.
لم تدم الغفوة إلا ساعة من الزمن، حتى حدثت جلبة أخرى... هل كانت جلبة العائدين من جلب الماء أو الحطب، أم صوت الخبّازين بموسيقاهم وضجيج العائدين من الرياضة الصباحية... كانت الأصوات مجتمعة، أصوات تدفعك دفعاً للاستيقاظ رغم برودة الجو في قمة التلة التي نتحصن فيها. كان الجميع مستيقظاً في هذا الصباح، كانوا يعدون العدة للاحتفال و زرع الأشجار وتناول الحلوى ومن ثم الغناء والرقص متحلقين حول نار عظيمة.
كان صوت جهاز اللاسلكي الذي يرافق الضابط المناوب لا يتوقف عن الأزيز والطنين وكانت المكالمات مكثفة في هذا الصباح. وكانت إحدى المكالمات موجهة إلى مقرنا بالذات، بذل الضابط المناوب مجهوداً اضافياً وأضطر لتسلق الصخرة ورفع الجهاز عالياً حتى يلتقط المكالمة جيداً ويفهم محتواها، واضطر الطرف الآخر لتكرار الرسالة عدة مرات وكذلك تكرار الأسماء التي يجب ابلاغها بالرسالة.
"روج باش روج باش استيقظوا..." انتقل الضابط المناوب بين ثلاث مهاجع لكي يوقظ ثلاثة منا. " ما الأمر؟". جاءت رسالة من القيادة "عليكم الآن حمل حقائبكم والتوجه إلى الوادي... أنتم ثلاثتكم". " متى؟". "قالوا الآن وسريعاً...". تدخلت ديروك:"دعوهم على الأقل يحتفلوا معنا ومن ثم يذهبوا. لينتظروا حتى الظهيرة". "لا أعرف... لكن الأوامر أوامر. قالوا الآن".
"ليحملوا حقائبهم"... هذه الجملة تعني دائماً شيءً واحداً؛ ألا وهو إننا لن نعود إلى هنا، ويعني بإننا سنرحل، ويعني بإن موعد المهمة الجديدة قد حان. "ليحملوا حقائبهم"، وما الذي نملكه سوا هذه الحقيبة. حقيبة خاكية قديمة ومتسخة، فيها كل الأمانات التي أؤتمننا عليها، تتجول معنا وترحل على ظهورنا، تسند ظهورنا في الاستراحات، تكون وسادتنا وقت النوم. الحقيبة وكل ما تحملها من كنوز وعوالم؛ ألبوم صور، دفاتر مذكرات، دفاتر تدريب، كتاب، عدة أقلام وأغلبها دون حبر ولا يعرف سوا الله لماذا نحتفظ بها، جوارب، عدة غرامات ملح، عدة غرامات ليموندزي، عدة مكعبات سكر، بطاريات وعلى الأغلب مستعملة، مصباح يدوي صغير، وشاح نظيف ومحفوظ جيداً، قداحة، صابونة، معجون وفرشاة الاسنان، عدة الحلاقة، رصاصات، قنينة بلاستيكية فارغة، سكين صغير وجهاز راديو صغير... فحينما نحمل نحمل حقائبنا، نكون قد حملنا معنا كل ما نملكه ونرحل دون أن نترك شيء خلفنا سوى ذكراتنا وعرقنا وآثار أقدامنا وبالطبع أصدقاءنا.
لم تدم إلا لحظات حتى كان خبر تلك الرسالة قد أنتشر في التلة، وجاء الجميع ليستوضحوا الامر: "وماذا بشأننا؟ إلى أين ستذهبون؟ متى سيحين دورنا؟". لم نكن نستطيع تأجيل "حملنا لحقائبنا" والهبوط نحو الوادي حتى الظهر، لكن كان يمكن تقديم الاحتفال ولو كان فقط لأجلنا. سنزرع شجراً، ثلاثة أشجار، لكل منا شجرة. وسنتناول حصتنا من الحلوى ونودع أعزاءنا ونهبط إلى الوادي. كانت الغيوم قد تلبدت وحجبت الشمس خلفها، وكانت الرياح تجلب غيوماً أكثر ويزداد السماء اكفهراراً. ما بين حزن الفراق، وفرحة البدء برحلة جديدة نجهل كهنها، هبطنا إلى أسفل الوادي واتجهنا إلى المكان المطلوب. وأخبرناهم بإننا نحن الثلاثة قد وصلنا. غاب الحارس دقائق وعاد قائلاً" لحظة وسوف يأتي... أنتظروا هنا".
لم ننتظر سوى ربع ساعة حتى خرج إلينا، كان كما عادت يعرج قليلاً في مشيته، أدركنا بإنه استيقظ لتوه، فهو كان البارحة في الطرف الآخر ويبدو بإن تعب الطريق قد أنهكه وقلة النوم قد ترك أثراً في انتقاخٍ تحت عينيه. ألقى السلام وسألني: "هل تعرف قرية ميروكى؟". أجبته بنعم فقال "هل جلبتم حقائبكم؟". بالطبع جلبناها، فهي ما زالت على ظهورنا. "أنتظر هاهنا، سوف تصل مجموعة خلال نصف ساعة، خذهم إلى الأسفل، إلى نهاية الطريق، ستأتي سيارة لكي تأخذكم... وأنا سألحق بكم". لم يزد على ذلك شيءً، عاد إلى من حيث أتى وأسدل البطانية التي كانت بمثابة باب خلفه. تفرسنا في وجوه بعضنا الآخر مستغربين ومستفهمين.
لم تمضي نصف ساعة حتى وصل آخرون تباعاً، مثلنا، حقائبهم على ظهورهم دون أن يعرفوا لما تم استدعائهم. "وأنتم أيضاً؟". "نعم... ولكن لا نعرف ما الأمر؟!" قلنا لهم: " علينا أن نذهب إلى ميروكى". البعض كان يعرف ميروكى أو كان قد سمع بها، ولكن البعض الآخر كان يجهل الامر تماماً ولا يعرف ماذا يوجد في ميروكى. كان العدد يزداد، من ثلاثة إلى خمسة، فستة، ثمانية. قلتُ "لما لا أذهب وأودع جيندا وجوان والآخرين؟". ابتسمت روهلات قائلة "لا تقلق، سوف تراهم خلال لحظات... أنهم قادمون إلى هنا أيضاً".
بعد أن وصل الجميع، هبطنا نحو نهاية الوادي، إلى الطريق الترابي الوعر، لننتظر السيارة التي ستقلنا. كانت الغيوم قد بدأت بإفراغ حمولتها بكل هدوء ورقة. قالوا لنا "خمسة دقائق وستصل السيارة". "خمسة دقائق"، خمسة دقائق لا تعني بالضرورة خمسة دقائق، يعني 300 ثانية! فهي قد تكون إشارة إلى 50 دقيقة أو 5 ساعات، لكنها تسمى إصطلاحاً بـ (خمسة دقائق). من واجبك أن تتصرف وتفهم بإنها عبارة عن (خمسة دقائق حقيقية) ولكنك تعرف من تجربتك بإنها تعني أكثر من ساعة على أقل تقدير.
وأنتظرنا تلك "الخمس دقائق" أنتظرنا خمسين دقيقة، ساعة، ساعتين، ثلاث ساعات... وكأن الانتظار لا يكفي، حتى فاضت السماء علينا فيضاً، ورعدت السماء رعداً وأفرغت الغيوم ما في جعبتها بكل كرم وسخاء ونكاية بنا. لم تترك المطر رقعة في ثيابنا وأجسادنا إلا ووصلت إليه، كان حماماً بارداً وريحاً أبرد. أنتظرنا حتى العصر ولم تنقضي "الدقائق الخمس" وحل المساء وشعرنا بالجوع والعطش، نحنُ ننتظر تلك الدقائق الخمس التي تكبر وتكبر حتى شعرنا بإنها ابتلعت كل الساعات والأيام والدهر.
في ساعات الليل الأولى اي بعد "مجرد خمس دقائق" وصلت السيارة، وكما هي عادة الشوفيرية في الكلام السريع واحداث الجلبة والنقنقة، يلوم الطرق والدواليب والأغنام والمطر والأضواء والتعب وانعدام الراتب ومشاجراته مع البوليس. "عددكم كبير جداً ولم يخبروني بهذا العدد، لا يمكنكم جميعاً الركوب، لا يمكن أن تركبوا في الكابينة، عددكم كبير والمطر لا يرحم، كيف ستركبون في صندوق السيارة، كم عددكم؟". رد عليه سيدو "عددنا 12 فقط. البعض سيركبه في الكابينة والبقية سنتدبر أمرنا في الصندوق". حتى تلك اللحظة لم أكن قد انتبهتُ إلى الرقم (12) ما مشكلتنا نحنُ الكرد، أو ما قصتنا نحنُ الكرد مع هذا الرقم؟
كان المطر يهطل بلا توقف، والريح تلفح وجوهنا بكل وحشية، وكانت السيارة تقفز بين الحفر والحجارة في الطريق الترابي الوعر، وكانت بعض أغصان الأشجار المتدلية تصفع وجوهنا أو ظهورنا كسياط الزبانية كلما مرت السيارة بالقرب من تلك الاشجار الكثيرة التي لا تنتهي. بعد أكثر من أربع ساعات ونحنُ نكافح الريح والمطر وصلت السيارة إلى مكان وتوقفت فجأة. كنتُ أعرف بإننا ما زلنا بعيدين عن المكان المقصود. لكن السائق النقاق توقف وأخرج راسه من النافذة قائلاً: "انزلوا هنا". أعترضنا على الأمر ولكنه أصر بإنه لا يستطيع خطو خطوة واحدة أخرى، فقد كنا قد وصلنا إلى نهاية الطريق الاسفلت، وكان النهر قد فاض نتيجة المطر الشديد ولا يمكنه المجازفة. رغم كل الشد والرد، إلا أن الشوفير النقاق الذي لا يتوقف عن الكلام والشكوى والبصق على الأرض لم يتزحزح عن موقفه، ولم نكن سنجبره على فعل أي شي. وترجلنا من السيارة وحاولنا أن تعود الدماء إلى اجسادنا المتجمدة جراء المطر والريح الباردة ويذهب الخدر والشلل من أقدامنا وعضلاتنا المتصلبة.
كان يجب أن نعبر النهر الهدّار ونصعد طريقاً ترابية موحلة لمدة ساعتين حتى نصل إلى هدفنا هذه الليلة. قال مروان: "يبدو بأننا قد أصبحنا مجموعة جديدة، ليكن لنا أسم للمجموعة... ها ما رأيكم". كما هي عادة كاجين فهو لم يحر جواباً فاسرع بالقول "ليكن أسمنا على أسم هذا اليوم... أي 4 نيسان".
نعم ليكن كذلك!

يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع