الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رأيٌ في .. ماهية النهضة؟!..... (الجزء الثالث والأخير)... محركات النهضة وكوابحها؟

خلف الناصر
(Khalaf Anasser)

2020 / 4 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


في كل الذي تقدم ـ في الجزئيين السابقين من هذه الدراسة المتواضعة ـ حاولنا أن نقول ونثبت فيهما ، أن النهضة عملية تاريخية ، وليست مشروعاً سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً مفرداته كذا وكيت ، كما لا يمكن لأحد صناعة النهضة أو خلقها من فراغ أو من العدم .
وإذا كان أحد تعريفاتنا للنهضة بأنها استحقاق تاريخي ، أوجبته سنن التطور التاريخي والطبقي والفكري والحضاري العام للأمم والشعوب والمجتمعات والأجناس البشرية ، وأن هذا الاستحقاق التاريخي كان حصيلة لتطور وحراك اجتماعي طبقي داخلي على مديات زمنية طويلة نسبياً ، رافقها تفاعل نوعي كثيف مع المحيط الخارجي!
ولتراكمات فكرية واجتماعية وسياسية ودينية وحضارية في البنيتين الفوقية والتحتية للمجتمع ، في واقع قومي اجتماعي طبقي لأمة من الأمم الكبيرة أو لإقليم من الأقاليم أو لقارة من القارات ـ كنهضة القارة الأوربية وانسانها الأبيض مثلاً ـ وأن تلك التطورات الاجتماعية والتفاعلات الداخلية والخارجية والتراكمات النوعية الكثيفة المتنوعة ، قد أدت بمجموعها إلى خلق شروط ومقومات ومحفزات ، للخروج من مرحلة تاريخية قائمة إلى مرحلة تاريخية جديدة بكل تفاصيلها ، وأن النهضة هي أداة الانتقال هذه :
 ومن عصر قائم إلى عصر آخر!
 ومن نمط حضاري معين إلى نمط حضاري مختلف وأكثر رقياً!
 ومن منظومة قيم ومفاهيم ومعارف لعصور قديمة ، إلى منظومة قيم ومفاهيم ومعارف لعصر أحدث!
 ومن طبقة اجتماعية استهلكت اغراضها التاريخية ، إلى طبقة اجتماعية جديدة جاء دورها التاريخي!

والنهضة في هذا العصر تعنـــــــــــــــــــي :
عملية الانتقال الشامل من العصور القديمة إلى هذا العصر الحديث.. أي الانتقال من عصور الدين والمذهب والطائفة والقبيلة والمنطقة أو الجهة ، إلى عصر القومية الأمة والدولة القومية ، التي تنصهر في بودقتها جميع هذه العناصر والمسميات!
*****
إن معضلة النهضة في كل عصر هي الإرث السلبي للمرحلة القديمة السابقة عليها ، وأن معضلة النهضة لكل أمة ومجتمع في هذا العصر، تتمثل في قدرتها على (الإفلات بصاروخ النهضة) من جاذبية المرحلة الدينية (الشديدة الجذب) إلى فضاء المرحلة القومية الواسع ، وفي القدرة على تجاوز – وليس إلغاء أو إمحاء أو نفي – .. أي، تجاوز كل ما :
 هو كهنوتي آخروي إلى ما هو مدني دنيوي ، لأن النهضة قضية دنيوية وليست آخروية!
 وتجاوز كل ما هو مذهبي إلى ما هو سياسي واجتماعي!
 وما وتجاوز كل ما هو طائفي وقبلي و مناطقي ، إلى ما هو قومي ووطني شامل!
 وتجاوز كل ما هو ماضوي خرافي معرقل ، إلى ما هو واقعي وعملي وبناء للحاضر وللمستقبل!
وإن النجاح في عملية التجاوز المتشعبة هذه ، هي بطاقة الدخول إلى العصر الحديث ، كما تدلنا تجارب لشعوب وأمم كثيرة تقدمت ونهضت فعلاً!
فالأمة التي تنجح في عملية التجاوز هذه وتعبر إلى المرحلة الأخرى ، تكون قد صنعت ـ في الوقت نفسه ـ النهضة وجعلتها حقيقة معاشة في واقع الحياة الوطنية والقومية ، وسارت في طريق التطور والتقدم والرخاء الاجتماعي والرفاه الروحي والمادي!
أما الأمة التي لا تستطيع ـ لأسباب عديدة ـ أن تعبر هذا الخانق التاريخي ، فإنها تبقى تراوح مكانها وتتخبط في متاهات (المرحلة الدينية) السابقة ، وترتد بما يشبه النكوص التاريخي إلى قشور الدين والمذهب والطائفة والقبيلة والمنطقة ، وصراعاتها الوهمية التي لا تنتهي!!
فتؤدي هذه الحالة بها إلى التمزق والتشرذم والتهرؤ والانقسام الشديد وربما إلى الاندثار المعنوي ، وكما هو حاصل لنا نحن العرب والمسلمون اليوم .. فنحن جميعنا قريبون جداً من هذه الهاوية السحيقة... ولكن!!
*****
من كل هذ الذي قلناه ـ في هذه الأجزاء الثلاثة من دراستنا هذه ـ يمكننا أن نصوغ شروط ومهمات ومحددات النهضة بنقاط معلومة.. وكالآتي :
أولاً: إن النهضة استحقاق تاريخي أوجبته وفرضته سنن التطور الحضاري والتراكم التاريخي والحراك الطبقي الاجتماعي في واقع قومي معين ، وبالتالي، فإن النهضة ـ كما أكدنا عدة مرات ـ ليست مشروعاً سياسياً أو تنموياً أو اقتصادياً ، ولا حتى مشروعاً إحيائيا أو إصلاحيا ، إنما هي نهوض داخلي وأداة انتقال بين مراحل التاريخ المختلفة!
ثانياً: إن النهضة تاريخياً تمثل لحظات الانتقال المضطربة القلقة الفاصلة بين مراحل التاريخ المختلفة ـ نكرر مرة ثالثة ـ أن النهضة هي أداة الانتقال الوحيدة بين مراحل التاريخ المختلفة ، ويمكن تشبيهها بصاروخ لمركبة فضاية مهمته الأساسية ، هي الافلات بالمركبة الفضائية من (جاذبية لأرض الشديدة) إلى الفضاء الكوني الواسع .. وكذلك النهضة ، فإن مهمتها الأساسية الافلات بالشعوب والمجتمعات البشرية من جاذبية المرحلة السابقة عليها ، والنهضة هي الصاروخ أو المركبة التي تنتقل بها الشعوب انتقالاً شاملاً :
 من عصر إلى عصر آخر!
 ومن نمط انتاج اقتصادي إلى نمط مختلف!
 ومن طبقة اجتماعية مهيمنة إلى طبقة أخرى صاعدة!
 ومن نسق حضاري إلى نسق حضاري وأكثر تطوراً!

أي أن النهضة ـ نكرر مرة نلو أخرى ـ هي عملية تاريخية كبيرة وليست مشروعاً سياسياَ أو اقتصادياَ أو تنموياً ، إنما هي أداة الانتقال الشامل بين مراحل التاريخ المختلفة ، ومن مرحلة تاريخية بكل تفاصيلها واشكالاتها ومعوقاتها ، إلى مرحلة تاريخية جديدة أكثر تقدماً بكل تفاصيلها أيضاً!

ثالثاً: إن النهضة لا يمكن أن تقوم في بلد صغير محدود المساحة والسكان والموارد ، فأهم صفات النهضة الحقيقية هي أنها ذات محيط جغرافي وبشري واسع ، وفضاء حضاري شامل لمجموعة بشرية كبيرة:
فالنهضة أما نهضة لآمة كبيرة كالأمة الصينية أو الأمة العربية مثلاً ، وأما أن تكون نهضة لقارة من القارات أو لجنس معين من الأجناس البشرية ، كالنهضة الأوربية التي كانت نهضة [ لقارة أوربا وجنسها الأبيض تحديداً] أو النهضة الحالية الشاملة لليابان والصين وكوريا وباقي النمور الآسيوية ، وهي في حقيقتها نهضة لما يسمى بالجنس الأصفر بمجموعه ، وليس لجزء واحد أو أجزاء متفرقة منه!
فحتى النهضة الشاملة التي أحدثها الإسلام في حياة العرب وعموم الشرق ، كانت في جوهرها نهضة للجنس العربي ثم امتدت ـ لشموليتها الإنسانية ـ لباقي شعوب وأجناس الشرق برمته! .

رابعاً : إن نهضة أية أمة لا يمكن أن تنطلق من فراغ أو من العدم ، ولابد لها من خميرة حقيقية ينسج حولها التاريخ كل خيوطه ، وأهم هذه الخيوط على الإطلاق.. هــــــــــــي:
 العناصر الإيجابية في تراثها وقيمها: لأن النهضة عملية تأصيل وليس تغريب!
 وثانيها التلاقح الفكري والثقافي مع مراكز حضارية متقدمة عليها!
 وثالث الخيوط أن يصل مجتمع الأمة المعنية إلى وضع نفسي وفكري منفتح ، يقبل ويتقبل بهذا التلاقح ويسمح به ، ويصوغ منه (مركباً ثقافياً جديداً) خاصاً به ، منتجاً لثقافة وحضارة خاصة بذلك المجتمع .

خامساً: إن مقدمات النهضة وروحها ومهمتها الأولية تتمثل في مسألتين مهمتين:
 الأولى: إن روح النهضة روح نقدية ، تتناول في البداية بالنقد والتحليل والتعديل والتجديد والتطوير والتبديل ، قيم ومفاهيم وعقائد وتصورات تقليدية سائدة في المجتمع .
 الثانية: إن النهضة تطلق العقل وترفع الوصاية عنه ، وتحرره من كل قيد يحد من حريته ، والنهضة ـ في ًالبلدان الشرقية على الأقل ـ وإن كانت تحترم المقدس وتجله ولا تستغني عنه شعوبها ، لكنها تحاول حصره في أضيق نطاق ، حتى لا يعيق العقل ويحد من حريته وإبداعاته ، في لحظات النهضة التاريخية الحاسمة!

والنهضة التي لا تستطيع إنجاز هاتين المهمتين الجوهريتين في بداية انطلاقها ، تفشل في نهاية المطاف في انجاز مهماتها التاريخية الكبرى ، والمتمثلة بالتغير الاجتماعي الحضاري الشامل ، واللحاق بالعصر وبدوله ومجتمعاته المتقدمة!
*****
إن بعض النقاط التي أثرناها بخصوص عوامل النهضة وشروطها ومحدداتها قد تثير بعض الاشكالات في ذهن البعض.. كصغر البلد مثلاً :

 فسنغافورة مثلاً: وهي بلد صغير جداً ، لكنه متقدم جداً ونهض نهضة شاملة بسرعة فائقة؟
في الحقيقة أن سكان سنغافورة أغلبهم من الصينين ، وكانت نهضتهم جزءاً من نهضة الصين ومن نهضة الفضاء البشري الأوسع للجنس الأصفر بكامله!

 وثانيها : تقدم "إسرائيل" المذهل في محيط عربي متخلف؟؟
إن "إسرائيل" ـ أي فلسطين المحتلة ـ بكل المقاييس ليست جزءاً من هذا المحيط العربي المتخلف ، إنما هي جزءاً من المحيط الأوربي المتقدم ، فأغلب مستوطنيها هاجروا من دول أوربا إلى فلسطين واستوطنوها ، كما أن "إسرائيل" كيان وظيفي يؤدي وظائف كبيرة للإمبريالية العالمية في المنطقة ، وهي التي زودته بكل وسائل التقدم ليكون متقدماً على محيطه العربي ، كي يؤدي وظائفه المنوطة به بكل كفاءة واقتدار ، فتقدم هذا الكيان على محيطه المتخلف نتيجة لعوامل خارجية بحتة ، وليس لعوامل تاريخية داخلية أدت إلى نهضته وتقدمه !!

 والمثل الثالث : في هذا المجال هو نهضة بعض بلدان الخليج العربي رغم صغر حجومها ، ورغم أنها تعيش في وسط عربي متخلف؟
أن النهضة ـ أية نهضة ـ في حقيقتها نهضة للبشر وليس للحجر ، باعتبار أن الإنسان صندوقاً تخزن فيه كل تراكمات التاريخ وتفاعلات المجتمع ، وجميع التطورات الحضارية والفكرية والروحية......الخ على مدات زمنية طويل نسبياً ، والذي ينهض هو هذا (الخزين التاريخي) في أعماق الإنسان وهذا التراكم المتنوع داخل الإنسان ، وليس الأبنية والشوارع والعمارات الشاهقة فهذه تأتي كتحصيل حاصل وكجزء من النهضة الشاملة ، وليست النهضة بعينها ، فنهضة دول الخليج العربي العمرانية نهضة شكلية ، وهي مرهونة بأموال النفط واستمرارية تدفقه ، وهناك ألف احتمال يقول أن هذه الدويلات ستكف عن النمو والاستمرار في حالة انقطاع النفط أو انقطاع أمواله المتدفقة كالسيل العرم ، كما أن الذين قاموا بكل هذه النهضة العمرانية في دويلات الخليج العربي هم من الوافدين وليسوا أبناء البلد الأصليون ، فابن الخليج تطور شكلياً ، لكنه بقي على حالته وحياته وبنيته التقليدية ، ولم يمسها شيء من كل هذا التغير المحيط به!!

ومع هذا ، فإن هذه النهضة الخليجية تحسب لقادة الخليج العربي ، بأنهم خصصوا جزءاً مهماً من أموال النفط لهذه النهضة العمرانية الكبيرة ولم تبدد جميع أمولهم ، كما بدد صدام حسين مثلاً ثروات العراق الأسطورية في حروب عبثية!

فالنهضة يجب أن تكون نتيجة لتطور داخلي والعوامل الخارجة فيها تكون عوامل مساعدة ، وليس لعوامل خارجية طارئة أو دائمة ، كما هي عند الكيان الصهيوني ودويلات الخليج العربي!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قطر تلوح بإغلاق مكاتب حماس في الدوحة.. وتراجع دورها في وساطة


.. الاحتجاجات في الجامعات الأميركية على حرب غزة.. التظاهرات تنت




.. مسيرة في تل أبيب تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو وعقد صفقة تبادل


.. السيناتور ساندرز: حان الوقت لإعادة التفكير في قرار دعم أمريك




.. النزوح السوري في لبنان.. تشكيك بهدف المساعدات الأوروبية| #ال